كَانَ حَمْزَهْ
وَاحِدًا مِنْ بَلْدَتَي كَالْآخَرِينْ
طَيِّبًا يَأْكُلُ خُبْزَهْ
بِيَدِ الْكَدْحِ كَقَوْمَي الْبُسَطَاءِ الطَّيِّبِينْ

قَالَ لِي حِينَ الْتَقَيْنَا ذَاتَ يَوْمٍ
وَأَنَا أَخْبِطُ فِي تِيهِ الْهَزِيمِةْ:
اصْمُدِي ، لَا تَضْعُفِي يَا ابْنَةَ عَمِّي
هَذِهِ الْأَرْضُ الَّتِي تَحْصُدُهَا
نَارُ الْجَرِيمِةْ
وَالَّتِي تَنْكَمِشُ الْيَوْمَ بِحُزْنٍ وَ سُكُوتْ
هَذِهِ الْأَرْضُ سَيَبْقَى
قَلْبُهَا الْمَغْدُورُ حَيًّا لَا يَمُوتْ

هَذِهِ الْأَرْضُ امْرَأَةٌ
فِي الْأَخَادِيدِ وَ فِي الْأَرْحَامِ
سِرُّ الْخِصْبِ وَاحِدٌ
قُوَّةُ السِّرِّ الَّتِي تُنْبِتُ نَخْلًا
وَسَنَابِلْ
تُنْبِتُ الشَّعْبَ الْمُقَاتِلْ

دَارَتِ الْأَيَّامُ لَمْ أَلْتَقِ فِيهَا
بِابْنِ عَمّي
غَيْرَ أَنّي كُنْتُ أَدْرِي
أَنَّ بَطْنَ الْأَرْضِ تَعْلُو وَ تَمِيدْ
بِمَخَاضٍ وَ بِمِيلَادٍ جَدِيدْ

كَانَتْ الْخَمْسَةُ وَ السِّتُّونَ عَامْ
صَخْرَةً صَمّاءَ تَسْتَوْطِنُ ظَهْرَهْ
حِينَ أَلْقَى حَاكِمُ الْبَلْدَةِ أَمْرَهْ :
“انْسَفُّوا الدَّارَ وَشَدُّوا
إِبْنَهُ فِي غُرْفَةِ التَّعْذِيبِ !” أَلْقَى
ثُمَّ قَامْ
يَتَغَنّى بِمَعَانِي الْحُبِّ وَ الْأَمْنِ
وَ إِحْلَالِ السَّلَامْ !

طَوَّقَ الْجُنْدُ حَوَاشِي الدَّارِ
وَ الْأَفْعَى تَلَوَّتْ
وَ أَتَمّتْ بِبِرَاعِه
إِكْتِمَالَ الدَّائِرِه
وَ تَعَالَتْ طَرَقَاتٌ آمِرِه :
“اتْرُكُوا الدَّارَ” ! وَ جَادُوا بِعَطَاءِ
سَاعَةٍ أَوْ بَعْضِ سَاعِه

فَتَحَ الشُّرُفَاتِ حَمْزَه
تَحْتَ عَيْنِ الْجُنْدِ لِلشَّمْسِ وَكِبّرْ
ثُمَّ نَادَى :
“يَا فِلَسْطِينُ اطْمَئْنِي
أَنَا وَ الدَّارُ وَ أَوْلَادِي قَرَابِينُ خَلَاصَكْ
نَحْنُ مِنْ أَجْلِكَ نَحْيَا وَ نَمُوتْ”
وَ سَرَتْ فِي عَصَبِ الْبَلْدَةِ هِزّهْ
حِينَمَا رَدَّ الصَّدَى صَرْخَةَ حَمْزَه
وَ طَوَى الدَّارَ خُشُوعٌ وَ سُكُوتْ

سَاعَةٌ ، وَ ارْتَفَعَتْ ثُمَّ هَوَتْ
غُرَفُ الدَّارِ الشَّهِيدَه
وَ انْحَنَى فِيهَا رُكَامُ الْحُجُرَاتْ
يَحْضْنَ الْأَحْلَامَ وَ الدِّفْءَ الَّذِي كَانَ
وَ يَطْوِي فِي ثَنَايَاهُ حَصَادُ الْعُمْرِ ذِكْرَى سَنَوَاتْ
عُمِّرَتْ بِالْكَدَحِ ، بِالْأَصْرَارِ ؛ بِالدَّمْعِ
بِضَحْكَاتٍ سَعِيدَه

أَمْسِ أَبْصَرْتُ ابْنَ عَمِّي فِي الطَّرِيقْ
يَدْفَعُ الْخَطْوَ عَلَى الدَّرْبِ بِعَزْمٍ وَ يَقِينْ !
لَمْ يَزَلْ حَمْزَةُ مَرْفُوعَ الْجَبِينْ…

فدوى طوقان