• Visit Dar-us-Salam.com for all your Islamic shopping needs!
أضف تعليقك

إلى أمي الحبيبة:
حين تجدين هذه الورقة في مصحفي سأكون قد فارقت هذه الحياة إلى جنة عرضها السموات والأرض، فمصحفي هو الوحيد الذي لابد أنكم ستفتحونه يوما، وما أرجوه منك – أمي الحبيبة- أن تكملي الختمة التي كنت بدأتها من مكان وجود الورقة، لتكون آخر ختمة لي كاملة، بمعونتك، وتهبي أجرها لي ولوالدي الذي فارقنا منذ سنين.

سامحيني يا أمي! يا عطر حياتي، فهذه المرة الأولى التي أعصي لك فيها أمراً، أعرف أن صحتك لا تحتمل، فكنت أخفي عنك أنني كنت أخرج في المظاهرات لأقول بملء فمي: لا لمن صبغ حياتنا بالسواد، وهذا من مدرسة الفاروق حيث قال " يعجبني الرجل أن يقول بملء فيه لا!"

طلبت مني ألا أخرج مع الشباب، ولكني استشرت شيخي في الجامع، فقال لي: يا بني نحن في حال يجوز فيها أن تخرج دون إذن والدتك، فخرجت، سيما بعد أن طردوني من العمل، ولم أخبرك، طردوني لأنني لم أوافق على الخروج في مظاهرات التأييد، خصموا من راتبي أول مرة، ثم أحالوني الى التحقيق، ثم الى تحقيق أمني ضربوني فيه أيما ضرب، ظنوني من اليهود الذين استباحوا المقدسات!! وأذلوني أيما إذلال، وكأنهم يعاقبون من سرق الجولان، ثم سرحت حتى دون أن آخذ حقوقي ومستحقاتي منهم.

الشباب يا أمي لم يتركوني، وأمنوا لي عملا يكفيني ويسترني، على الأقل أمامك وأمام زوجتي وولدي، وفي الوقت نفسه كنا نخرج كل يوم لنقول" لا " ولنقول " ارحل " ولنقول " ما منحبك " لذلك الذي زرع هو وأبوه من قبله- بأفرع أمنه – الرعب في النفوس، حتى غاصت الألسن في مستنقع الخرس!!، كنا نغني ونرقص ونتبارى في تركيب الأهازيج، كنا نضحك من كل قلوبنا، بينما هم وأزلامهم وشبيحتهم كانوا خائفين، هم مدججون بالأسلحة الفاجرة، كانوا يختبئون وراء الجدران والأعمدة وهم المسلحون ونحن العزل، ثم يطلقون الرصاص فيسقط منا من يسقط، ويعلو صوت التكبير، نحاول أن نسعف من سقطوا، ولكنهم غالبا كانوا يضربون في مقتل، ومن كان ينجو من قتلهم ينتظرونه في إسعاف المشافي ليقتلوه هناك.

أمي! الآن حدث ما حدث، لقد كتبت لك هذه السطور لعلها تخفف عنك، أنت أم، بل أعظم أم، وأجمل أم في الدنيا، أعلم أنه لا يسهل عليك أن تفقدي ابنك، لذلك أحببت أن (أدردش )معك قليلا، لعلي أستطيع أن أقطف من روض فمك الطاهر " سامحتك يا حبيبي وقرة عيني " ولو غسلت على أعتاب دمعتك الحرى.

عشت يا أمي مع أبي خمسا وثلاثين سنة، كان رجلا نظيفا، عظيما، وعندما كبرنا عرفنا أنه- وهو موظف كبير- كان يبني، وهم يهدمون، يصحح وهم يخربون، كثيرا ما حاولوا أن يتخلصوا منه، يلفقون له التهم، ولكن الله كان ينجيه، كم نجا من كمائنهم!! ولكن هل تذكرين كيف أمضى سنواته الأخيرة من حياته؟ لقد كان يائسا، مكتئبا، كان يتملكه إحساس بالهزيمة، لقد حاصروا كل الخير الذي حاول أن ينجزه أو يحققه في حياته وأنهوه، ولولا أنه كان مولعا بالقراءة، ولولا عبادته وصلاته وتلاوته للقرآن الكريم، لقتله الاكتئاب والإحساس الناخر بالهزيمة، ربما قبل ذلك بكثير، أستغفر الله ربي، إنه الأجل يا أمي.

في أمسيات العزاء كان أصدقاؤه وأحباؤه يروون لنا قصصا عن صبره على ظلمهم ولؤمهم وتخريبهم ومحاولاتهم لإزعاجه وإذلاله وإزاحته من وجوههم، لا أعرف ان كنت تعرفين كل هذه القصص، فقد نجح في إخفائها عنا طوال عمره، لقد حاولوا أن يشوهوا سمعته، ويخوضوا في أمانته، تصوري يا أمي لو نجحوا فيما أرادوا كيف كنا سنتابع حياتنا؟ !

ألا يستحق أبي، وغيره كثيرون، أن نقول بقوة والصوت الجهير:" لا " كفاكم، نحن لم نفكر في ثأر يا أمي، لم نحمل سلاحا، ولكني لا أنسى وجه أبي- رحمه الله- وقد كساه الغم والانكسار بملامح كاسفة كادت أن تغشي على نور إيمانه وعبادته.
لا تقولي لي: إنك لا تعرفين شيئا عن كل معاناة أبي، لا أشك في أنه كان يروي لك شيئا مما يعتلج في صدره، ويوم مات كلنا رأينا في وجهك شيئا آخر مع الحزن الفاجع، لقد كان شيئا يشبه الكره والبغض والرغبة في الانتقام .

أمي! يا أجمل الحروف تتراقص على شفاه الأبناء!، لقد جاهدتما كثيرا حتى استطعتما تربيتنا وتعليمنا، في الثمانينات كان من الممكن جدا أن يقتل أي واحد منا، كل ما فعلتماه في حياتكما كان من الممكن أن يضيع، لأن القتل والسجن والتعذيب والإذلال كان عشوائيا، لم يتقوا الله حتى في النساء والأطفال، أنت تذكرين ابن جارنا أبي محمود "كريم " الذي أخذوه، وكان في الصف العاشر، وحتى الآن لا يعرف أهله إن كان حيا أو ميتا، كنت يا أمي قد استعرت منه كتابا، وعندما حاولت أن أعيده لأبيه قال لي: يا بني تعيده له عندما يخرج إن شاء الله، قالها وفي عينيه دمعتان بحجم محيطين كبيرين.

بقي الكتاب في مكتبتي يرمقني بما يشبه الاستياء، كنت دائما أحاول أن أصرف نظري عنه، ربما حياء، أو خوفا، أو رغبة في النسيان.

في الثمانينات لم يتورعوا عن فعل شيء، ثم استقر لهم الأمر، فاستأسدوا أكثر، بل استضبعوا وتوحشوا أكثر، سرقوا أكثر، ظلموا أكثر، هل تريدين يا أمي أن يستقر الأمر لهم مرة ثانية، هل تقدرين ماالذي يمكن أن يحدث إن عادوا إلى ما كانوا عليه، لن يتركوا أحدا الا ويسومونه سوء العذاب، هم وحوش في جلود بشر!!

كفانا رعبا يا أمي، كفانا ذلا، كفانا يأسا، كفانا مغالبة للشياطين التي تريد أن تستأثر بكل شيء ولا تترك لأحد حتى أدنى ما يلبي حاجاته، أتذكرين يوم لم تقبل أختي في الدراسات العليا في الجامعة، وقبل من هو أدنى منها درجات، وعندما سأل أبي عن السبب قيل له : رفض أمني !! تصوري يا أمي أختي التي تعرفينها، والتي لا تعرف من الشر ذرة، أختي الحيية، يرفضونها أمنيا ! ثم فهمنا أن السبب هو حجابها، هل تذكرين دموعها ذلك اليوم، كادت أن تصرخ من شدة إحساسها بألم الظلم، ألم ينخر في القلب والدماغ، أحسست يومها أنها تكاد تنفجر، لولا أنك حضنتيها وأضفيت عليه من فيض حنانك وحاولت تهدئتها، وقلت لها :الرزاق هو الله.

أمي! سمعت جارتنا يوما تقول لك وأنتما تشربان قهوة الصباح: الله يهدي الشباب، الأمور ماشية والحمد لله، لماذا يريدون إسقاط النظام؟
ضحكت يومها من جملتها الأخيرة وقد نطقتها بالفصحى، لكن يبدو أن هذه الجملة صارت من الجمل المحفورة في كل لغات الأمم المقهورة ولهجاتها.

لا يا أمي، الأمور ليست ماشية، والناس كلهم يريدون إسقاط النظام، لأننا البلد- ربما الوحيد- الذي بلا نظام، بلا قانون، بلا أعراف، لا يوجد عندنا حد أدنى للشرور، لا يمكن أن تنزل تحته، سرقوا حياتنا ومستقبلنا وأملنا بالحياة، سرقوا مستقبل أولادنا، يقولون إن بلدنا فيها خيرات كثيرة، لا تهم الأرقام، ولكن لماذا نعيش حياتنا كالشحاذين؟ ! ويعيشون هم في جنات يحاولون بها أن يجاروا جنة الله، خسئوا، فوالله الذي لا اله غيره لن يهنأوا في دنياهم، وسيصلونها سعيرا في الآخرة إن شاء الله.

ندرس ونتخرج، ثم ندور نبحث عن وظيفة، فإن وفق الله ووجدناها لم يكف الراتب للطعام والشراب و اللباس والتعليم والمازوت والدواء، ماذا نفعل إن كانوا قد أوصدوا جميع الأبواب في وجوهنا، نرتشي؟ نصبح سماسرة شر؟ نغش، نخدع، ونكذب؟ هل ترضين لي يا أمي شيئا من هذا؟ نهاجر ونتركها لهم؟ كم عدد الذين يقدرون على الهجرة؟ ولماذا نترك لهم كل شيء لنعيش بقية حياتنا غرباء بلا أهل وبلا وطن.

أتصورك الآن وأنت جالسة على سريري تقرأين رسالتي ودموعك تملأ وجهك، ويساقط منها على بعض كلماتها فتتمدد على الورقة حبرا إضافيا، لذلك سأحاول أن أضحكك،

أنت المسؤولة عن قراري بالخروج إلى المظاهرات ثم الاستشهاد، نعم يا أمي، أنا شهيد ويجب أن تفرحي، ما من شيء يمكن أن يرفع درجاتي عند الله كالشهادة، والآن سأقول لك لم أنت المسؤولة عن قراري الذي يحزنك هذا الحزن الهاديء، أتذكرين أول كتاب قدمته لي للقراءة عندما قررت أن تعوديني عليها؟ لا أظن أنك تذكرين، إنه كتاب " شهداء الاسلام في عصر النبوة " كنت يومها في الإعدادية ، وعندما قرأت الكتاب ومع صغر سني تمنيت أن أستشهد كما استشهد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كانت بذرة نمت بعدها وترعرعت بالقراءة والأخذ عن شيوخي في المسجد، لم يكونوا يتحدثون في السياسة، إنما كان الحديث دائما عن عظمة التضحية والعطاء، و عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعين،

ما أجمل الموت في سبيل الله عندما يكون عتبة لدخول الجنة، ودون حساب، فكري معي يا أمي قليلا "دون حساب "!!! من منا يقدر على الحساب؟ من منا يقدر على الوقوف بين يديه تعالى؟ ألا يستحق هذا الإقبال على ما أقبل عليه الشباب، وقد حانت الفرصة .

لا يعني هذا أنني لا أحب الحياة، أو أنني أحب الموت، أنت تعرفين أنني عشت عمري كله وأنا مقبل على الحياة بالرغم من كل الصعوبات التي وضعوها في وجوهنا، وبالرغم من كل المخاوف التي جعلونا نعاني منها، لكننا اليوم أمام فرصة لا بد أن نستغلها، فإما حياة تليق بي وبك وبزوجتي وولدي وإما شهادة أكسب بها نجاتي وسعادة الأبد، ولا نامت أعين الجبناء.
كم سنة يمكن أن تعيشي معي من اليوم يا أمي، أطال الله عمرك، عشرا؟ عشرين؟ وينتهي كل شيء، هناك سنلتقي في دار البقاء، ولعلك ستدخلين الجنة لمجرد أنك ربيت رجلا شهيدا.

أمي …كم ظلموا؟ كم سرقوا؟ كم قتلوا؟ كم خربوا؟ إلى متى يمكن أن ينتهي هذا كله؟ أنا لا أتحدث عن ستة أشهر أو سبعة مذ تركنا وراءنا ظهريا الخوف من الظالم، مع أنهم فعلوا الأفاعيل فيها، أربعون سنة يا أمي، أربعون سنة مليئة بالظلم والقتل والتعذيب، بالرعب والخوف حتى الجنون، نعم فأنت تذكرين صديقي الذي كان معي في الجامعة، بقي عندهم سنتين، ثم خرج يظن أن كل من وراءه يتبعه.

ثم ألست أنت التي أهديتني عندما عدت مع أبي من العمرة فيلما عن محمد الفاتح؟ أرأيت كيف تتحملين مسؤولية قراري، لا أعرف إن كنت نجحت في رسم بسمة من وراء دموعك "شهداء الإسلام" ثم " محمد الفاتح "، لا ..وأيضا حفظ عشرة أجزاء من القرآن الكريم، وكنت دائما معي تتابعين حفظي، ألا تعرفين أن هذه تعتبر ثلاث جرائم في أمن دولة .

هل أنتظر يا أمي أن يفعل بأختي أو بابنتي أو بك أنت ما فعلوه بنساء أخريات؟ في الثمانينات والآن؟ هؤلاء لا يتورعون عن شيء مهما كان منحطا !هل تريدين يا أمي ألا أشعر بالصفعة إلا إذا سقطت على وجهي، لم تربيني هكذا أبدا يا أمي .هؤلاء وحوش وليسوا من بني البشر، لابد من اقتلاعهم، من أجلك، من أجل زوجتي ونساء بلدنا، ولدي وأولاد بلدنا، يا أمي الأمور ليست كما يقولون :ماشي الحال، قولي لهم جميعا كفانا هذه الحال، وكفانا جبنا وخوفا وتمريرا للوقت مع الذل والحرمان.

عندما كنت صغيرا، أمضيت صيفا كاملا وأنت تأخذينني إلى طبيب الأسنان، كنت أتألم، وكنت تقولين لي دائما، لا بد من الألم، كل من يذهب إلى طبيب الأسنان عليه أن يتحمل قسطا من الألم، ولكنه بعدها يرتاح وتصبح أسنانه جميلة بيضاء وابتسامته مشرقة، يا أمي الشعب كله قرر أن يذهب إلى طبيب الأسنان ويتألم ليرتاح وتشرق أيامه .
أمي، هم يصطادوننا اصطيادا، نكون في المظاهرات وفجأة يتساقط الرصاص علينا من كل جانب، يقولون عصابات مسلحة، شبيحة، أمن، جيش، يا أمي كله مثل بعضه، مسرح عرائس والذي يحرك الدمى يد واحدة، وستقطع هذه اليد إن شاء الله.

أمي أنا الآن في أحسن حال، والحمد لله أنني أجتزت الامتحان وفزت بالشهادة، المهم أنت، انتبهي لصحتك، لن أوصيك بشيء، لأنني أصلا لا أملك شيئا، احضني زوجتي وولدي وابكوا قليلا، خمس دقائق يكفي، ثم اخرجوا أمام الناس وزغردوا فرحين كما كنا نراهم في التلفاز.
هناك رسالتان أخريان كتبتهما لهذا اليوم، واحدة لزوجتي، وواحدة لأخي الأكبر، تجدونهما في مكتبتي داخل كتاب "إذا هبت ريح الايمان"، أرجو أن يقرأ كل منهما رسالته.
أبو عبيدة

أرسلت بواسطة:ابتسام أبو اللبن

أضف تعليقك

19 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك

16 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك

15 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك

14 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك

13 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك

12 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك

11 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك

10 نوفمبر, 2010 صمود فلسطيني

أضف تعليقك