ﻷول مرة منذ سنوات عديدة، نادتني أمي: "يا ولد" بعد أن خرجت من البيت مع بنتيَّ للسفر إلى البحرين دون أن آخذ كوب قهوتي (رفيقي الدائم) وأمضت وقتا ليس بالقصير في نصحي بالانتباه وعدم التهور في القيادة.
لَمّا الْحَنونَةُ أَمْسِ نادَتْ: يا وَلَدْ *** ضَحِكَ الْفُؤادُ وَكانَ بَسْمَتِيَ افْتَقَدْ
وَرَجَعْتُ أَلْعَبُ في حَواري بَلْدَتي *** (دورا) وَبَيْتٍ لَمْ يَزَلْ وَسَطَ الْبَلَدْ
كَمْ بِالْكُراتِ لَعِبْتُ مَعْ صَحْبي بِها *** وَقَنَصْتُ أَهْدافًا تُخَلَّدُ لا تُصَدْ
وَرَجَعْتُ أُمْسِكُ بِاللُّصوصِ وَلَمْ يَكُنْ *** يَوْمًا لِيُفْلِتَ مِنْ عِقابي مَنْ فَسَدْ
وَرَجَعْتُ أَسْمَعُ والِدي وَدُعاءَهُ *** إِذْ قامَ يُحْيي اللَّيْلَ … كَمْ فيهِ سَجَدْ
وَرَجَعْتُ في (الرّازي) لِمَدْرَسَتي الَّتي *** مِنْ بِئْرِها نَهَلَ الْعُلومَ مَنِ اجْتَهَدْ
وَرَجَعْتُ تِلْميذًا يَبُزُّ رِفاقَهُ *** في النَّحْوِ … في حَلِّ الْمَسائِلِ والْعُقَدْ
سَجَدَ الْفُؤادُ مُكَبِّرًا في مَسْجِدٍ *** فيهِ حَفِظْتُ (النّاسَ)، (قُلْ هُوَ)، وَ(الْمَسَدْ)
أَتْقَنْتُ أَحْكامَ التِّلاوَةِ فيهِ مِنْ *** وَصْلٍ وَإِدْغامٍ وَإخْفاءٍ وَمَدْ
وَرَجَعْتُ أَحْفَظُ مُحْكَمَ الْآياتِ في *** شَغَفٍ بِنونٍ جَرْسُها قَلْبي عَمَدْ
وَرَجَعْتُ أَحْفَظُ شِعْرَ عَنْتَرَةَ الَّذي *** وَصَفَ الْغَواني الْبيضَ رَبّاتِ الْغَيَدْ
(رَمَتِ الْفُؤادَ مَليحَةٌ) لَمْ أَنْسَها *** لَمْ يَمْحُها مِنْ خافِقي طولُ الْأَمَدْ
هِيَ أَوَّلُ الْأَلْحانِ في قَلْبِ الْفَتى *** هِيَ أَوَّلُ الشِّعْرِ الَّذي حَفِظَ الْوَلَدْ
هِيَ بِذْرَةٌ غُرِسَتْ بِقَلْبي أَصْبَحَتْ *** مِنْ بَعْدِ عَشْرِ سِنينَ زَهْرًا لا يُعَدْ
في عَيْنِها طِفْلٌ أَنا وَصَغيرُها *** ما زِلْتُ لَمْ أَكْبُرْ وَلَوْ أَصْبَحْتُ جَدْ
أُمّاهُ قَدْ أَدْمَتْ فُؤادي غُرْبَتي *** بِسِهامِ غَدْرٍ لا تُصَدُّ وَلا تُرَدْ
وَبَناتُ دَهْري قَدْ عَشِقْنَ مَدامِعي *** وَالْحُزْنُ سَوْطٌ شَغْفَ قَلْبي كَمْ جَلَدْ
صَبْري جَميلٌ ظَهْرُهُ لا يَنْحَني *** لكِنَّ صَدْري قَدَّهُ سَيْفُ الْكَمَدْ
لَوْ كُنْتِ قُرْبي يا رَؤومَةُ لَمْ أَكُنْ *** يَوْمًا لِأَعْبَأَ بِالرَّزايا وَالنَّكَدْ
ما كُنْتُ أَعْبَأُ بِالْعَدُوِّ وَمَكْرِهِ *** وَبِمَنْ عَلَي،َّ لِأَنَّني فَحْلٌ، حَقَدْ
ما كُنْتُ أَعْبَأُ بِالَّخَؤونِ وَغَدْرِهِ *** ما كُنْتُ أَعْبَأُ بِالْحَسودِ وَما حَسَدْ
قَدْ كانَ يَكْفي مِنْكِ قُبْلَةُ رَحْمَةٍ *** كَيْما تُبَدِّلَ عيشَتي الضَّنْكى رَغَدْ
شَوْقي إِلَيْكِ الْيَوْمَ لا وَصْفٌ لَهُ *** هُوَ لانِهائِيٌّ وَحِبْري قَدْ نَفَدْ
جواد يونس