لغة السياسي ولغة الواعظ
د. صالح نصيرات
بداية أود التنبيه على أمر مهم جدا وهو أن القصد من هذه المقالة علمي بحت ولا علاقة له بأحد على وجه التعيين.
اللغة أداة تواصل كما أنها وسيط التفكير وليست مجرد أصوات أو كلمات. وللحقيقة فإن البحث العلمي في اللغة أدى إلى الكثير من النقاش حول دور اللغة في بناء تصورات الفرد حول عالمه أو إنشاء عالمه الذي يريد، وكيف تستطيع اللغة فرض قواعدها على المتحدث والسامع.
ولأن اللغة أداة تواصل فإن المتحدث  يحتاج إلى معرفة أمور عدة تتعلق بحال المخاطَبين وتوقعاتهم من المتحدث. فمن يذهب إلى المسجد أو أي دار عبادة، فإنه يتوقع لغة: مفردات وعبارات وأساليب بيان تختلف عن الذي يذهب لحضور لقاء جماهيري مع سياسي أو حوار تفاوضي بين سياسيين.
فالواعظ في المسجد يتوسل بأساليب إقناع تتمثل في سرد القصص خصوصا القصص التي تحوي مبالغات ومُثُلٍ وقيم معينة والاستشهادات من مصادر المعرفة الأساسية للدين من قرآن وسنّة ومقولات العلماء. في حين أن السياسي يستخدم لغة أخرى  لتحقيق هدف يتمثل في إقناع المخاطبين ببرنامج انتخابي أو جرد حساب لما تم إنجازه أو حديث عن الواقع والمستقبل.
ويقع اللبس عندما يستخدم السياسي لغة الواعظ والواعظ لغة السياسي دون الشعور بضرورة التمييز بين أدوات الخطاب وأساليبه في الحالتين. فكل فريق تم تدريبه وتعليمه بطريقة تختلف عن الآخر.
وبما أن الوعظ مهمته إذكاء شعور المستمعين وشحنهم عاطفيا من خلال اسلوبي الترهيب والترغيب، فإن لغته تميل عادة إلى استخدام مفردات ذات حمولة عاطفية لتحقيق الهدف المنشود. وهذا الأمر لا يتأتى إلا باستخدام لغة القطعيات واليقينيات وعدم استخدام لغة نسبية يمكن أن تكون مفتوحة على تفسيرات وتأويلات مختلفة. كما أن لغة الواعظ تميل إلى أسلوب "الفرض" لذلك نجده يستخدم  عبارات مثل
"علينا أن نفعل كذا وكذا ونتجنب كذا وكذا" ولغة التقريع أحيانا  " إننا لانجد من يقوم بأداء الفرائض والواجبات المطلوبة"  ومنها أيضا لغة التهديد والوعيد "فإن لم تفعلوا كذا فسيصيبكم كذا.." ولذلك نجد كثيرا من المستمعين يضيقون ذرعا بهذا النوع من الخطاب، وينتظرون اللحظة التي ينزل فيها الخطيب عن منبره أو الواعظ عن كرسيّه. على أن العامة –عموما- يجدون لذة في الاستماع إلى الخطباء المفضلين لديهم، ولو أنهم لا يفعلون إلا القليل مما طلب منهم. والوعاظ يميلون عادة إلى رفع الصوت وتلوينه  وتنوع في طبقات النبر والتنغيم.
أما لغة السياسي فهي لغة تحتلف تماما ويجب أن تختلف عن لغة الواعظ، وإلا وقع السياسي في مشكلة الإلزام الذاتي بما لا يستطيع تنفيذه من وعود وعهود. وبما أن السياسة فن الممكن، فإن السياسي الماهر يستخدم لغة نسبية، ويكثر من استخدام الاستثناء وكذلك أفعال المقاربة والشك. كما أن استخدام أفعال الشرط وأدواته مهمة للسياسي.
ويستخدم السياسي – عادة- لغة فيها الكثير مما يسميه علماء الخطاب "الكلام المتناقض". أي أنه قد يقنعك بمايريد ثم يستطيع نقض ذلك الكلام حسب حاجته.  كما أنه يستخدم لغة المراوغة  من خلال المجازات والاستعارات التي يمكن أن تحتمل أكثر من تفسير وتأويل.
المهم هو أن ندرك أن من يتصدى للعمل السياسي والحوار والتفاوض يحتاج إلى أكثر من قناعاته الشخصية أوعقيدته السياسية عند الحديث للجماهير، بل لابد من معرفة ودربة لا ستخدام أساليب الخطاب المختلفة حتى لايقع أسيرا لكلام قد يعود عليه بالضرر.