الصدق: الفريضة الغائبة
"يا ايها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين"
الصدق فضيلة عظيمة "وإن الرجل ليصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتب عن الله صِدّيقا" صدق رسول الله صلى الله عليه سلم. في زمن الفتن والنكبات تظهر معادن الناس "آلم. أحسب الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلم الله الذين صدقوا ويعلم الكاذبين". فالاختبار الإلهي لصدق الناس حتمي، إذ أن كل من شاء يستطيع أن يدعي ما يشاء، ولكن الفعل يصّدق تلك الأقوال أو يكّذيها.
والأصل في المسلم ان يكون مع الصادقين امتثالا لقوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين". فمن علامات التقوى مصاحبة الصادقين والنأي بالنفس عن مجالسة الكذابين والاستماع لهم وتصديقهم لمصالح عارضة.
واليوم، يكثر اللغو وتكثر الثرثرة، ويكثر الكذّابون على الله وعلى الناس. فما نقرأ من مقالات وتغريدات ومنشورات لا حصر لها، نجد فيها الكثير من الغثاء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع، ونجد فيها ادعاءات بحب الوطن والحرص عليه وكذلك الحرص على الدين ونقائه من انتحالات المبطلين. وكثيرا ما تخفي هذه المنشورات والتغريدات كذبا مفضوحا لايمكن إخفاؤه مهما حاول الكذّابون.
والصدق يعني انسجام القول مع الفعل، والتأكد من أن الكلام الذي يقال يعكس حقيقة ما يجول في النفس، ويصدقه العمل.  وفي زمن غابت فيه الكثير من القيم، وأصبحت المصالح الشخصية والأنانيات تحكم سلوك الكثيرين، ظن قوم أن كذبهم سيمُر، وأن باستطاعتهم خداع الناس، وما علموا قول تعالى "ولتَعرفنَّهُم في لحن القول".
لقد كان الشاعر العربي واضحا في بيان فضائح القوم " ومهما يكن عند امرىء من خليقة وإن خالها تخفى على الناس تُعلم". فمهما حاول الكذاب تغطية كذبه بمعسول الكلام فإنه مفضوح لأن الله سبحانه وتعالى يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
وللأسف أننا نقرأ لأقوام نعرفهم ونرى سلوكهم، ونستغرب منهم مواقف لم تكن يوما من خليقتهم. فمصالحهم تملي عليهم أن يتدثروا بالكلام، ولكنه دثار رقيق إذ لا يتجاوز حناجرهم. ولكن في زماننا انطلى على الناس الكذب أو صدّقوا الكاذبين لما يرون في ذلك من تحقيق ما يصبون إليه من مال أو جاه أو سلطة ونفوذ. وقد حذرنا الحبيب المصطفى في حديثه المشهور من أيام كهذه بقوله "سيأتي على الناس سنوات خداعات؛ يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكَذَّب فيها الصادق…".
فالصادق في زمن الكذب متهم بالتهور والسذاجة والبساطة، أما الكذّاب فهو الحكيم والواقعي والمنطقي. وهذا الكذّاب مقدم عند أمثاله الذين لايتوانون عن جعله أنموذجا للرشد والصلاح والكياسة والسياسة. والصادقون لا يستطيعون البقاء في بيئة الكذب، فهم أنقياء لايريدون أن يتلوثوا بهذه البيئات الفاسدة والتي تغطي مصالحها وأنانياتها بالكذب المفضوح.
ولأن الكذب عموما يحتاج إلى غلاف مقبول، فإن أكثر ما قد يلتبس على الناس أقوال مغلفة بالوطنية والتدين. فيصبح شرف الوطن وقدسية الدين أدوات للكذّابين للتلبيس على العامة. وهذه ظاهرة نراها اليوم بشكل لا تخطئة العين.
لقد مرّ على هذه الأمة كذابون كثر، قادوها إلى الهلاك. فكثير من زعماء الأمة ممن ادعوا الوطنية والعروبة وحب الأوطان تبين للناس كذبهم وفجورهم، مع أن بعض الفئات المصللة لاتزال تنشر ذلك الكذب. لقد قال أحدهم يوما " إن حرية الكلمة هي المقدمة الأولى للديمقراطية" وفي سجونه كان تسلخ جلود البشر، ويُعدم الصادقون، وتُنتهك أعراض المنادين بحرية الكلمة.
وحتى الذين تلبسوا بالدين و التدين وجعلوه أداة يوظفونه لخدمة مصالحهم كما قال أحدهم "الإسلام كالصقر.. تدربه ثم تصيد به". حيث تم تدريب اقوام وتدجينهم واصبحوا أدوات بيد الكذابين. وللأسف أن قوما صدقوا كذب أولئك، فاصبحوا لايرون الدين إلا بطاعة مطلقة لأولئك الكذابين حتى رفعهم بعض الدجالين إلى مرتبة النبوة.

د.صالح نصيرات