ها هو ميدان التحرير في قلب العاصمة المصرية القاهرة يهتز من جديد ، و ها هو الزلزال الثوري يعاود هزاته الارتدادية المتكررة بهدف إسقاط صرح نظام سابق حتى النهاية ، بل حتى اقتلاع أساساته حجرا حجرا ، و بناء صرح جديد ليس على أنقاضه ، و دولة مدنية حديثة بمعايير جديدة و مغايرة ، ففي خلال ثلاثة ايام فقط و منذ تجدد الأحداث الثورية في ميدان التحرير ، ميدان الثورة المصرية و العديد من ميادين القطر المصري ، يسقط في الميدان قرابة  خمسة و ثلاثين شهيدا جديدا على أيدي قوات الأمن المصرية ليلتحقوا بالقافلة ، إضافة إلى المئات من الجرحى في ثورة ارتدادية هزت العديد من المدن المصرية و أعادت إلى الأذهان أحداث الثورة المصرية في الخامس و العشرين من يناير ، و لقد كان السبب الأول و المحرك الرئيس لها وثيقة المبادئ الفوق دستورية التي ارتبطت ارتباطا مباشرا باسم الدكتور علي السلمي نائب رئيس وزراء حكومة ما بعد الثورة ، و التي أثارت جدلا واسعا و عميقا في الوسط السياسي المصري و تم رفضها من قبل الثورة و قطاع كبير من الأحزاب و النخب السياسية المصرية ، و بخاصة بعض بنودها المثيرة للجدل و التي يفهم من مضمونها تكريس سلطة العسكر ، و النأي به عن المساءلة و المراقبة من قبل السلطات المدنية المنتخبة ، فجاءت الدعوات إلى مليونية جديدة خرجت يوم التاسع عشر من نوفمبر إلى ميدان التحرير و ما تلى ذلك من أحداث و مواجهات بين شباب الثورة و قوات الأمن المصرية بعد محاولتها فض اعتصام بالقوة  لعدد قليل من شباب الثورة في الميدان ،،
          و الغريب في الأمر أن عقلية الحكم القائمة حاليا في مصر هي إلى حد كبير شبيهة بالعقلية التي قامت الثورة من أجل تغييرها و الإطاحة بها ، فحكومة ما بعد الثورة و على رأسها السيد الدكتور عصام شرف رئيس الوزراء تعرضت للكثير من الانتقادات اللاذعة من قبل جهات و أحزاب سياسية و شخصيات عدة ، و اتهمت بالضعف في مناسبات و محافل جمة ، و في مقدمتها الدكتور عصام شرف و  بضعفها على وجه الخصوص أمام المجلس العسكري الذي يرأسه السيد المشير محمد حسين طنطاوي ، و بأنها تنفذ فقط ما يمليه عليها المجلس العسكري ، فلم تستطع تلك الحكومة رسم أو تكوين شخصية محددة لها ، و لم تنجح في تحقيق خطوات إبداعية قد تغير من حال المصريين إلى الأفضل ، و لقد وصلت الأمور في مرات عديدة بالنداء و المجاهرة علنا من قبل الكثيرين لهذه الحكومة و رئيس وزرائها بالتنحي و الاستقالة لكن شيئا من هذا لم يحدث ، و حتى في المرة الوحيدة التي تقدم بها السيد عصام شرف باستقالته فقد وضعها أمام المجلس العسكري كي يوافق عليها ، فأفرغ بذلك مفهوم الاستقالة من روحه و مضمونه .
        أتساءل هنا أين هو الحس الثوري في حكومة تسمى حكومة ثورة ؟؟ و كيف يواجه رئيس تلك الحكومة جميع تلك الانتقادات ثم يبقى ساكنا متجاهلا كل تلك الدعوات له و حكومته بالاستقالة و أين هي المصلحة الوطنية هنا ؟؟
       إذن فهناك شبه كبير بين هذه العقلية و عقلية النظام السابق و الذي قامت الثورة أصلا من أجل تغييره و التخلص منه ، و لا أعتقد بالمناسبة أن كرسي الحكم قد أفلح و في فترة وجيزة جدا بشد هؤلاء و تثبيتهم إليه بسحره الخلاب ، و لو كان قد فعل فيا لهذا الكرسي ما أشأمه !!
    لقد بدأت الأمور تحتد شيئا فشيئا بين الثورة المصرية و النخب و الأحزاب السياسية من جهة ، و بين المجلس العسكري و حكومة ما بعد الثورة من جهة أخرى عندما شعر القائمون على الثورة و حراسها بالتراخي من قبل المجلس العسكري الحاكم و حكومة الدكتور شرف في تنفيذ الإصلاحات الضرورية ، و الإعداد السريع و تهيئة الأجواء لانتخابات نيابية و تشريعية ، و إعداد لجنة دستورية تقر دستورا حاكما للبلاد ، و تباطئه في تسليم السلطة لأيدي مدنية و كذلك التراخي في محاكمة رموز النظام البائد و أقطابه و في إصدار القوانين المحددة لمشاركة المتهمين بقضايا فساد في العمل السياسي ، فلم يصدر قانون الإفساد السياسي إلا عند  تأزم الأمور شديدا و  بعد الثورة الارتدادية و المليونية التي تشكلت يوم التاسع عشر من نوفمبر و ما تلاها من الأحداث !!
        و أخيرا ، و في الثاني و العشرين من نوفمبر و بعد أن وصلت الأمور إلى حد بالغ الخطورة في ميدان الثورة المصرية و العديد من المحافظات ، تتقدم حكومة ما بعد الثورة مرة أخرى باستقالتها ، و تضعها مجددا أمام المجلس العسكري برئاسة السيد المشير محمد طنطاوي للموافقة عليها ، و لا أدري ما الداعي لوضعها بين يديه إذا كانت هناك نية حقيقية للاستقالة ، مع علم تلك الحكومة بإمكانية محاسبتها و مساءلتها على أفعال قامت بها ، أو أغمضت عينيها عنها في ظل أوضاع سياسية و اجتماعية و أمنية متردية !!
      أخيرا يقبل السيد المشير استقالة حكومة السيد عصام شرف ، و يخرج في خطاب موجه للأمة المصرية مساء الثلاثاء الثاني و العشرين من نوفمبر ، تم وصفه من قبل الكثيرين بأنه لا يلبي مطالب الثوار في ميدان التحرير و باقي الميادين ، و لقد تلخص خطاب المشير طنطاوي في نقاط محددة أهمها :
– أعاد خطابه التذكير بدور القوات المسلحة في الثورة المصرية و مساندتها لها و سعيها إلى تسليم السلطة لأيدي مدنية منتخبة .،
– حيادية القوات المسلحة و وقوفها على مسافة واحدة من جميع الأطياف السياسية و التأكيد على عدم رغبتها التمسك بالسلطة و عدم اكتراثها لمن ستؤول السلطة .،
– قبول استقالة حكومة السيد عصام شرف و حكومته مع تخويلها بتسيير الأعمال إلى حين تشكيل حكومة جديدة .،
– التأكيد على أن الانتخابات النيابية سوف تجري في موعدها المحدد لها يوم الثامن و العشرين من نوفمبر .،
– استعداد المشير للتنحي إذا تم استفتاء شعبي يقر ذلك .
              و هنا لا بد من الإشارة إلى أنه لم يتم ذكر وثيقة الدكتور علي السلمي محل الخلاف في خطاب المشير و لم يتم سحبها كما طالبت غالبية قوى الثورة و القوى السياسية ، كما أنه لا بد من الإشارة إلى أن السيد المشير لم يحدد وقتا زمنيا معلوما لتشكيل حكومة بديلة خاصة و أن الانتخابات المفترضة هي على الأبواب ، و من السهل الملاحظة هنا أنه من المستحيل إجراء انتخابات ديمقراطية نزيهة و شريفة فعلا في ظل غياب شبه تام للعامل الأمني الضروري لها و في ظل تدهور الأوضاع ، و أن الفائز في هكذا انتخابات سيكون البلطجي فقط !! يضاف إلى ذلك أن السيد المشير قد أبدى استعداده للتنحي لكنه لم يطرح البديل و كأنها عودة أخرى إلى عقلية النظام السابق و خطاب مكرر من حقبته .
         في شهادة المشير طنطاوي في جلسة محاكمة الرئيس المخلوع مبارك ،  التي أريد لها أن تكون سرية يوم الرابع و العشرين من سبتمبر خرج أنصار الرئيس السابق و هم يرقصون و يرددون أن شهادة المشير جاءت في صالح مبارك ، و أنا شخصيا لا أدري كيف أن رئيس الجمهورية في نظام جمهوري شمولي لا يكون مسئولا عن جميع ما جرى من أحداث إذ أن صلاحياته كانت لا تعرف الحدود داخل القطر المصري ، و من كان ليأخذ على عاتقه قرارا بقتل متظاهرين سلميين دون الرجوع إلى السيد الرئيس ؟؟ خلاف القضايا الأخرى الكثيرة المرفوعة ضد الرئيس السابق .
          و في عودة أخيرة إلى وثيقة الدكتور علي السلمي ، و التي تمنح في بعض بنودها صلاحيات واسعة للجيش و القوات المسلحة ، و تمنع البرلمان من مناقشة أمور كثيرة و مراقبتها خاصة ميزانية الجيش و التي تخضع في كثير من البلدان المتقدمة للنقاش داخل البرلمان ، و بالربط بينها و بين محاكمة الرئيس المخلوع تتبادر و تلح على الأذهان أسئلة عدة و هي : هل أن القوات المسلحة أرادت أن تصنع بتلك الوثيقة حاجزا و حجابا يبعدها و يجنبها مساءلة قوى الشعب المنتخبة ؟؟ و هل أن النخبة العسكرية و هي ما زالت هي هي في عهد مبارك متورطة بشكل ما مع النخبة السياسية آنذاك في قضايا فساد مالي و إداري أو قضايا أخرى ؟؟ و هل بدأ القابعون في غياهب السجون يتلاقفون المسئولية عن الأحداث في ثورة 25 يناير مع أولئك الذين لا زالوا خارج القضبان ، أم أن هناك من يضغط من داخل السجن على من هم بخارجه ؟؟ و هل تحاول النخبة العسكرية على افتراض تورطها في قضايا فساد مع النخبة السياسية العودة بالأمور بنعومة و حيلة و دهاء إلى حالة شبيهة بالوضع السابق إبان حكم المخلوع مبارك و إعادة إحياء فلوله و نفخ الروح فيهم من جديد ؟؟
          أسئلة عديدة تطرح و قد تدور في خيالات المتابع لتطورات الأمور في مصر ، لكن المهم بل الأهم في هذه المرحلة ليست الإجابة عن تلك الأسئلة ، إنما المهم و الملح هو الخروج من هذه الأزمة و عدم السماح بتدهور الأوضاع بأي شكل من الأشكال إلى ما لا تحمد عقباه ،،
          لا بد أن نذكر بالدور المشرف و العظيم الذي قامت به القوات المسلحة و على رأسها المشير محمد طنطاوي إبان الثورة المصرية الحديثة التي اندلعت في الخامس و العشرين من يناير ، و كيف أن الجيش و القوات المسلحة وقفت حائلا بين الثورة و قوات الأمن التابعة للنظام البائد ، تلك لحظات تسجل بماء الذهب و تكتب في أزهى صفحات التاريخ و أكثرها إشراقا ، لن ننسى يوما و أبدا أن الجيش المصري لم يوجه رصاصة واحدة نحو صدور المصريين ، على خلاف ما حدث و يحدث في بلدان عربية عدة من أحداث تدمي قلوبنا !!
          و عليه فإن مصر بجميع أطيافها و تشكيلاتها العرقية و الدينية و السياسية هي أمام مفترق طرق خطير للغاية و يؤدي إلى طريقين لا ثالث لهما ، فإما أن يحاول المجلس العسكري الحاكم العودة بأمور الدولة إلى حالة نظام سياسي شبيه بالنظام السابق تكون فيه اليد العليا للعسكر و هذا الأمر سوف يؤدي لا محالة إلى حالة من الشد و الجذب بين أقطاب الثورة المصرية جميعا و بين العسكر ، و إذا تعنت الجيش أكثر مما يجب فربما تستمر هذه الحالة إلى ما لا نهاية مما سيزيد الشقة والشرخ بين الشعب و قيادة الجيش بل و الجيش نفسه مما سيؤدي إلى حالة غير نهائية من الفوضى و انعدام الأمن و ربما إلى مواجهات حقيقية في ظل وعي شعبي و سياسي متزايد متنامي و ثورة ملتهبة و نخبة سياسية لن تستطيع التخلي عما أنجز في هذه الثورة ، و هذا ما لا نريده و لا يريده أحد من الغيورين على مصلحة مصر و نستعيذ منه جميعا و لا نقبل تصوره حتى في خيالاتنا ،،
             أما الطريق الثاني و هو الأسلم فهو أن يقوم الجيش و المجلس العسكري باستكمال دوره الريادي في الانتقال بالدولة من الحالة الثورية إلى نظام سياسي مدني حديث قريب من العدل و يتفانى في هذا الأمر ، و هذا يستدعي لفت النظر في المرحلة الحالية عن صفحة الماضي و تجاهل جميع الملفات باستثناء هذا الملف الملح للعبور بالبلاد إلى بر الأمان و قبل فوات الأوان ،،
          و أنا شخصيا من الذين لا يستطيعون تصور أن الشعب المصري العريق بكل حضارته و طاقاته و إمكانياته البشرية و الفكرية رغم اختلاف مشاربها لا يستطيع الخروج من هكذا أزمة !! أو أن يعجز خياله عن وضع و صياغة حلول تعود بالبلاد إلى الاستقرار و الأمان ، إذ أن لديه العديد من الخيارات للخروج من الأزمة و تسليم السلطة مؤقتا إلى حين الانتهاء من عملية انتخابات المجالس و كذلك الإعداد لدستور جديد للبلاد و من ثم انتخابات رئاسية ، كذلك أمام المصريين المثال التونسي يمكنهم أن يحذوا حذوه ، و أمام المصريين خيار آخر ، و هو التوافق  على رئيس مؤقت للبلاد لفترة محدودة مكتوبة من عام أو أكثر ، يوقع مرسوم استقالته من قبل أن يتسلم أية سلطات ، يقوم بتهيئة المناخ العام لإجراء الانتخابات بمساعدة قوى الجيش ، ثم يتم انتخاب أو تزكية لجنة دستورية ممن تم انتخابهم أصلا ، و من ثم تجرى انتخابات رئاسية لا يحق له الترشح لها في دورتها الأولى ،،
              أمام المصريين تشكيل حكومة إنقاذ وطني مؤقتة و متوافق عليها ذات صلاحيات معلومة كما تدعو غالبية الأحزاب و القوى ، تقوم بتسيير الأمور في هذه المرحلة مما سيرضي الشارع و يهدئ من روعه ، تعيد الأمن و الأمان تدريجيا إلى ربوع البلاد ، ثم و مرة أخرى تجري جميع الانتخابات اللازمة و وضع الدستور و و الخ ،،
           هناك إذن سبل و مداخل متعددة للخروج من الأزمة و من الممكن اختيار أفضلها إذا توافرت الإرادة الصادقة لذلك مع عدم تغليب المصالح الشخصية و الحزبية على مصلحة وطن يحتوي الجميع ، و من ضمنها الاحتكام للدستور الحالي و الذي تم تعديل بعض بنوده لحين الانتهاء من مجمل العملية السياسية .
         إذن فهناك الكثير من المداخل للحل إذا توفرت النية الصادقة للخروج من الأزمة قبل أن تصل الأمور إلى درجات من التعقيد حيث يستعصي حلها ، و لا أريد هنا أن يكون المانع من فعل ذلك هو عدم الثقة في أنفسنا ، هذا ما لا نتمناه أن يكون من شيمنا ، و ما لا نرجوه لشعوبنا الثائرة ، و لا يجوز بأي شكل من الأشكال في مفصل تاريخي و بالغ الأهمية من حياتنا ، في لحظة تاريخية ترسم مستقبل أجيالنا .

م . عبدالله لبّد   في 24 / 11 / 2011