يدلف الحيّ يوميّا قبل أوبة الغروب، معلنا عن وصوله بترانيم مزماره وكرتونته المعلقة في رقبته والمليئة بحلوى الأطفال، كأنّها همّ ثقيل مدمر لفكره واتزانه النفسيّ، فيتجمهرون حوله، يناديهم صديح المزمار وأشكال الحلوى الشهية، يقف فوق مصطبة الحيّ العالية، يتطاول كبرياءً ببذلته المهترئة ذات اللون البني التي حوّلتها سنين القهر إلى اللون الكاكي، وربطة العنق المعلقة في رقبته فوق القميص الداخلي كحبل مشنقة، في يده منظارمشروخ معلنا: من يشتري الحلوى سأكافئه بالفرجة من منظاري (ناضورلعبة)على مدن فلسطين المحتلة، تعالوا لتمتعوا عيونكم بسورعكا وبيارات يافا وجبل الطوروالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة في القدس وكنيسة المهد في بيت لحم والحرم الإبراهيمي في الخليل،إنّها فلسطين بلد الخيرات وأرض الديانات وبلد الخيرات وطنكم المسلوب.
بعد البيع والفرجة تتقمصه الزعامة لأنّه ناصريّ الهوى مهووس بفكرعبد الناصرككل أبناء جيله وخطبه التي حفظها عن ظهر قلب، فهو خطيب ألمعي ومفوّه، فيتهيأ لإلقاء خطبة من خطب الزعيم التي تلهب الأمل في النفس، فيمسد بقايا شعر رأسه ويُعلي أضلاع صدره، ويرفع أكمام بذلته ويوزع نظراته الحماسيّة على جمهور الصبية الصغار، ويخطب بصوت جهوريّ:أخواني، لا إقطاع، ولا احتكار، ولا رأسمالية مستغلة، بل ديمقراطية العدالة الاجتماعية ثمّ يُعلن عن لاءاته، ويتغنى بالعروبة والقومية ويردد بغضب عبارته الشهيرة "ما أخذ بالقوة لايستردّ إلا بالقوة " وفلسطين حرة عربية ، ووو… بعد إلقاء الخطبة ينحني لتصفيق الصغارالملتهب حماسة ثمّ يقف شامخا قائلا:"أنتو بكرة لا تبيعوه" ويغني مع ترانيم مزماره "أصبح عندي الآن بندقية إلى فلسطين خذوني معكم "والصغار تغني معة ويتجوّلون في الأزقة، كان له ضجيج بطولة وحلم بالنصرورفض مطلق لفكرة الهزيمة، ثمّ يقود مظاهرة لكل المستمعين من الصبية الصغار يهتفون وراءه: فلسطين حرة عربية وفلسطين بلادنا واليهود أعداؤنا .
هذا زمن ناجي جزء من تراث الحارة الشعبية في بيروت، له ملامح مميزة، أمل بالنصرقريب، حلم بالعودة، فلسطين على مرمى حجر، عزّة تحتويه بإباء العروبة .
كنت في طفولتي أشتري الحلوى من ناجي وأستمع إليه واصفق له، قالوا أن سبب جنونه علمه وعبقريته فسألت أبي: فسر لي ما يقول ناجي وهل العلم يؤدي إلى الجنون؟ أجاب بحسرة: لا يا ابنتي، أنا أعرف ناجي لقد درس في يافا قبل الهجرة ثم أكمل تعليمه الجامعيّ في القاهرة ونال الدكتوراة في السياسة والاقتصاد من الجامعة الأميركية في بيروت ثم عين محاضرا فيها لكنّ عبقرية ناجي أدركت المؤامرات التي تحاك لتغافل القضية بكل أبعادها وسياسة إلغاء فلسطين من الذاكرة العربية، قرأ ما وراء السطور وخفايا العبارات الوهمية والأوراق التي تمرر من تحت الطاولات، أو بعبارة أخرى"باعونا وقبضوا الثمن" أقلقهم ، فاستولى العملاء على أمواله وأقصوه عن منصبه التعليمي، وسرقوا منه زوجته الجميلة وأجبروه على طلاقها بعد تعذيب عنيف، لم يتنازل عن مبادئه وأحلامه في العودة إلى فلسطين ،حاربوه بكل الوسائل، صمد صمود الجبابرة ،وعندما حدثت هزيمة حزيران أفقدته بقايا عقله واتزانه النفسي، وأصبح كما ترين، ما زال يلقي محاضراته وخطبه ويعقد ندواته الوهمية مع الصغارعلى مصاطب الأحياء الشعبية لا مدرجات الجامعة الأميركية.
صورته لم تبارح مخيلتي، عملاقا ،صوت ملأ الدنيا بضجيجه ،لم أنس تلويحات يديه وإشارات الانفعال والإحساس بالوطنية والثورة والغضب والأمل. أحيانا يغيب ناجي بعقله عن الحضور لحظات، حين يتذكر همسات الزوجة الحبيبة وحين تراوده الرؤى الحميمة بين فينة وأخرى، يسحب صورتها من جيب معطفه الطويل ، وينظر إليها وتدمع عيناه ، ويذكر نداءاتها وكلماتها، حبها ربيع أزهرورودا في قسوة زمنه، غربتها وبعدها عنه عذاب لايحتمل، روحها تغزل ذكرى لحظات حب تسكنه لتعينه على واقع مرير، مشاعرها رسائل حب تحوم حوله، الحياة في هذا المنفى قطعة خبز يابسة مغموسة بالذل والقهر، يقينه عندما يلسعها برد الوحدة تختبئ ضمن عباءته لتلتمس الدفء من ذرات حبه الملتهب،لا سبيل إلى اللقاء، يوم انتزعت من حياته قسرا أبكت كلّ من حولها، لكنّ نداءات الأطفال تعيده إلى واقعه المغيّب عن عقله: عمو ناجي اهتف: فلسطين عربية، فلسطين بلادنا واليهود أعداؤنا.
الخوف عبث بكيانهم ،ناجي رجل مهزوز نفسيا ، ورغم اختلاله العقليّ يكشف خبايا مؤامراتهم في بيع الأوطان، لكنّها الطفولة التي ستخزن فكر ناجي الثوريّ والوطنيّ ولسانه الذي يردد "فلسطين حرة عربية "، و"ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة"، فلسطين في منظاره صور وحكايا يغرسها في أذهان الصغار، قرروا، رصاصة واحدة تكفي، واستقرّت في صدره حيث صورة الزوجة المسروقة ،ووجد ملقىً في أحد أزقة الحي القديم، فارقته الروح سالت دماؤه والمنظار المشروخ في يده وكرتونة الحلوى مبعثرة أمامه، سقط ناجي مضرجا بدمائه، التفّ الصبية حولة وبكوه بألم، حمل أحدهم المنظار، وتعالى صوته عاليا،عاليا،عاليا …وبدمع غزير: هذه فلسطين الحبيبة واتفرج يا سلام على عكا وحيفا ويافا واللد والرملة وبيسان …. وتجمّع الصبية ودمعهم يملأ المآقي وهتافاتهم صارخة:" فلسطين حرة عربية " "فلسطين بلادنا واليهود أعداؤنا " وأصواتهم تتعالى من الأزقة إلى عنان السماء .
**********************************
هذه القصة من ذكريات طفولتي وناجي لم يكن شخصية وهميّة بل حقيقية.
بقلم:فاطمة يوسف عبد الرحيم