"فالله خير حافظا"
كانت نادية العروس الجديدة التي زُفت لشاب في مقتبل العمر تعيش آمالا عراضا وتفكر فيما يحمله المستقبل.. كانت كلمات والدها قبيل الخطبة يوم أن تقدم إليها عمرو ترن في اذنيها "عمرو شاب ملتزم ومتدين وتعرفين يا غاليتي ما معنى ذلك في دولة الإجرام والاستبداد" أجابت والدها على استحياء "وهل تريد لي شابا غير ملتزم"؟
رد الوالد المشفق على وحيدته "افهم أنك مستعدة لحياة مع هذا الشاب … إذن على بركة الله".
 انتقلت من بيت أهلها نادية إلى عمرو ، حيث الطيبة و التربية والعطف و الحنان إلى بيت جديد لاتعرف الكثير إلا ما قاله  والدها عنه… فهو يعرف هذا الشاب الخلوق المتدين.
كان عمرو يقضي وقته بين عمله وبيته واشياء أخرى لاتعلم عنها الكثير، وكان لها زوجا محبا عطوفا وكريما. كان لعمرو اصدقاء على شاكلته… يذهبون إلى المسجد يصلون ويلتقون الشباب الآخرين.. يعلّمون بالسلوك والقدوة الحسنة التدين الصحيح الذي يفضي بالمسلم إلى أن يكون خادما لدينه وأمته ووطنه. كان أثر عملهم على الشباب واضحا… أخلاقا عالية وتقدما في المدراس والجامعات.. والتزاما بقيم نبيلة..
لم يعد عمرو في ليلة كانت طويلة وقاسية على نادية… ظلت تفكرولكنها فزعت إلى الصلاة … كان عمرو بقول لها " إن تأخرت يوما عن البيت فلا تقلقي… فالله خير حافظا وهو أرحم الراحمين".
وجاء عمرو بعد ساعات  ويبدو عليه أثر قلق وتوتر… لماذا تأخرت؟ بادرته بالسؤال.. أمر عارض لا تقلقي… إن شاء الله سيكون الأمر خيرا.. كان عمرو مع اصدقائه يسمرون ولكنه سمر المؤمنين… وهذا سمر يقلق الظلمة و الفاسدين.. يقلق أجهزة الرعب والإرهاب… لك ان تسهر وتسكر وتصاحب وترافق وتحشش في مقاهي وسط البلد أو الكباريهات ! فهذا حلال  بل مطلوب.. أما أن تَسمَر مع أهل الإيمان بقراءة قرآن أو قيام ليل أو مذاكرة في كتاب فتلك جريمة وذلك تنظيم سريّ يقودك إلى السجن او المشنقة في بلاد الغربان الذين ابتليت بهم الأمة.
كان عمرو في عمله في مستشفى خاص مثالا للطبيب الإنسان… يلقى الناس ببشاشته وابتساماته… 
تفضلي يا أمي… أهلا بك يا عمي… هكذا كان يخاطب مرضاه.. يقدم كل ما يستطيع… في حقيبته ادوية غالية الثمن لايستطيع على شرائها الفقراء… يقدمها مجانا… تنزل دموعه على وجنتيه وهو يقدم خدمة لمرضاه " وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ". كانت سعادته ببسمة على وجه مريض أو دعوة من أم أو اب مريض أو زائر.
وفي ليلة لم يأت عمرو إلى البيت…انتظرت نادية قليلا فلم تصبر… اتصلت به على الهاتف فلم يرد… ساورها القلق.. ذهبت بها الخيلات بعيدا… اتصلت بوالدها فأخبرته… "هوّني عليك يا صغيرتي.. لعل نسي الهاتف في مكتبه.. لعل ..لعل…" ولكن هذه الكلمات الأبوية الحانية لم تطمئن قلب هذه العروس التي بدأت تظهر عليها آثار حملها الأول…
لم تنم… سارعت إلى صلاتها… تدعو هي تبكي على رفيق عمرها الذي تأخر عن الحضور.. بقيت حتى ساعات الفجر وهي تحاول الاتصال به ولكن دون جدوى… هدّها التعب والنعاس فنامت..
استيقظت بعد ساعات على طرق عنيف على باب شقتها.. لم تحتمل الطرق.. لبست حجابها واندفعت تفتح البال.. فإذا بيد غليظة تمتد إليها وتدفعها فتقع على الارض… أين عمرو؟ سألها ضابط قاسي القلب.. بذيء اللسان؟
"لم يأت هذه الليلة"…اين هو إذن؟؟ أجابت بصوت متهدج "لا أعرف" "لاتعرفين يا بنت… وهوى بكفه الغليظة على وجه فتاة عاشت دلالا..إذ لم تمتد إلى وجهها يد ابدا إلا بالحب و العطف ". هوت على الأرض من قوة تلك الصفعة … وانتشر جنود ملثمون في غرف الشقة يبعثرون كل شيء يبحثون عن عمرو كما يزعمون.. لم يعثروا عليه… تركوها على حالها..وخرجوا مهددين ومتوعدين..
هاتفت والدها وأخبرته بما حصل.. جاء على عجل إلى الشقة ترافقه أمها الحنون.. 
"لا عليك يا ابنتي.. ربنا معاك ومع عمرو.. لا تخافي.. فعمرو رجل مؤمن ونعرفه جيدا… إن شاء الله سيعود سالما" سأتصل باصدقاء عمرو وأسال عنه" 
خلال الحديث جاءت رسالة قصيرة على هاتف الأب " عمرو مسجون في معتقل الضبع".. نظر إلى الرسالة فتغّير وجهه  "لا حول ولا قوة إلا بالله… حسبنا الله ونعم الوكيل" قالها بثقة.. 
"ابي.. ماذا في الرسالة؟ سالته نادية بوجل، فهي لاتريد ان تسمع خبرا كهذا.. 
اجابها الأب و الأم تنظر بإشفاق" خيرا إن شاء الله.. وأعطاها الهاتف لتقرأ الرسالة"
"اللهم يسر أمره وفك اسره وامنحه الرضا بقضائك وثبتني على ماتحب وترضى" قالت ذلك الدعاء وهي تعيد الهاتف لوالدها.. 
"هذا ظني بك يا حبة القلب" قالت الأم لنادية… "إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون".
وبدأت دوامة الرحلة إلى سجن "الضبع"… ساعات على الطريق وساعات أمام السجن لتلقى حبيب الروح والفؤاد للحظات … استمر الحال اشهرا .. لم توجه إليه تهمة.. لماذا السجن و المعتقل إذن؟
لا جواب أبدا… 
وأخيرا جاء المحامي ليقول لها " لقد حاكموا اليوم عمرو ووجهوا إليه تهمة تعليم الشباب القرآن في المسجد"
وهل هذه تهمة؟ سألت المحامي؟
"نعم في عصر العرص كل شيء ممكن…" اجابها المحامي 
 لم يغادر قلبها الأمل..كانت الصلاة و الدعاء سلاحها في مواجهة الخطب الجلل.. والعمل الجاد  من أجل أخراج وزجها من محنته.. فقد ولدت على أرض أوروبية وتحمل جنسية أجنبية وكانت نادية حريصة على تعلم عدة لغات اجنبية منها الانجليزية والفرنسية والأسبانية. وكان والداها حريصين على أن تكون متميزة في دراستها  وكان لهم ما ارادوا…
وضعت خطة لنفسها بعد ايام من الاعتقال… الاتصال بكل ما تستطيع.. وسائل الإعلام الغربية … منظمات حقوق الإنسان… المؤسسات الدولية.. وكانت بعض زميلاتها في الدراسة قد وضعن أنفسهن في خدمتها… مقالات في كبريات صحف العالم.. مقابلات مع محطات تلفزة عالمية.. وصلت قضية عمرو إلى أسماع الكثيرين.. 
"إذا اردت أن يعود عمرو فتوقفي عن هذه الأعمال وإلا…" وصلتها رسالة على الهاتف
"عمرو ليس شخصا.. عمرو اليوم ظاهرة… كل الشباب المعتقل عندكم مثل عمرو… اليس فيكم رجل رشيد"؟
جاء الرد مباشرة " هكذا علمك الإخوان الوقاحة وقلة الادب"؟
فردت " بل علمني ديني قول الحق والنضال المشروع ضده"

 استمر نضالها السلمي اشهرا ولكن ما لم يصلها سوى وعود لا أكثر. وقررت أن تذهب إلى سفارة البلد الذي تحمل جنسيته
قالت للسفير بلهجة المؤمنة " أنا لا أتوسل ..هذا امتحان لكم… أنتم تزعمون أنكم ضد التعذيب و الاعتقال التعسفي وتدافعون عن الحيوان قبل الإنسان ولكنكم نتترددون عندما يكون المعتقل مسلما"
نظر إليها السفير نظرة استغراب 
"لا لن نسكت أبدا… انتظري.. سأتصل بالخارجية وأكلم الوزير إن كان موجودا"
رن هاتف وزير الخارجية… أهلا بسعادة السفير… 
عندي مواطنة من بلدي وزوجها اعتقل عندكم… تهتمه كما ذكر لي المحامي ليست سوى تعليم القرآن وهل هذه جريمة عندكم؟
لا..لا.. سيدي السفير.. دقائق وسأعود إليك" رد الوزير 
وفي الأثناء رن الهاتف إنه الوزير
"سيدي السفير.. أيام ويطلق سراح الطبيب… كان الأمرمجرد سوء فهم.."
خلال الأيام اللاحقة لم تتوقف نادية عن عملها من أجل زوجها حتى آخر لحظة..
جاء عمرو وحده.. تغير قليلا.. عليه آثار تعذيب … ولكن روحه كانت تحلق في علياء الإيمان" لن أدع ديني وعملي مع الله مهما كانت النتائج" 
فرحت نادية واسرتها بعودة عمرو وعاد الحب والهناء إلى بيت أراد المجرمون وهدمه.. ولكن الله غالب على أمره….

صالح نصير