منذ شهر ونيّف وأهل مخيم اليرموك في دوّامة، مثل مركب بلا قبطان، يدور من بحر إلى بحر، لكنّه لا يقف في ميناء، ولا يرسو على برّ..
إنّهم (خارج المكان، وداخل المكان)، يتدحرج واحدهم في ظلمة قنوطة، يسند كتفه إلى جذع زيتونة، ويصبّ عظامه حجر، ويتأمّل في صمته الأزرق المتلهّف ظلمة الأبانوس..

الزّعّار يمرّون، والدّعّار يمرّون، والزمن يتكثّف فوق البيوت المهجورة، والكلمة قارب بهار على صفحة نهر، بين نجمة ونجمة في الصّخب النابت بين الجلد والدماء، والتطلّع ينساب فوق الحيطان التي قسّمتها الشظايا والحرائق، والعاصفة تحاصر العابرين في الممرّ إلى السكينة، والقصف يتساقط في الأمكنة التي صودرت لغتها، وبنادق عمياء تعسكر عند خطّ التماس بين السلامة والفجيعة، وضجّة خطب وكلام كثير، وحُجُر مغلقة على السرّ، واجراس كبت تتدلّى فوق الوجوه التي على زبد الخراب..

مخيم اليرموك ليس في حالة تحدٍّ، إنه في حالة حصار..

التحدّي يترك لك سلاح المناورة وأرض التحرّك، وفلسطينيو المخيم لا سلاح عندهم ولا فرصة للمناورة أو أرض للتحرّك.

وحتّ لو كان عندهم السلاح لما استخدموه، لأنهم تحاشوا دائماً سفك دم الأشقّاء، حتى لو كانوا من الذين يدخلون في الأنوف كجنّ الأساطير، ويضعون المخيم قسراً أمام سنابك الشرّ والطغيان.

وأهل المخيم تعبوا وأُرهقوا حتى الجوع والصقيع والقرف، واستنزفوا حتى الرمق الأخير، وعشرات منهم صاروا يتساقطون كالثمار المهترئة كلّ صباح، الثمار التي تعلن رائحتها عن موتها في العزلة.

وفي مكان قريب – بعيد، حقول البحر تتفاوض مع الريح، والقباطنة القدامى ينفخون في النار التي وقودها حطب التين، ونار التين لا تُدفئ.

يلتهب الجرح الذي تخثّر البحر على أجداقه، وليس غير أن تولد اللحظة.
بقلم:محمد أبو عزة