من على السفح الشمالي لجبل النار تطل جِنِيِن على ساحل مرج بن عامر مرج الخير والعطاء بشذاه الصحابي، تطل على أوديته فتنعش الذاكرة بقصص مَنْ مَرّوا بتلك الأودية مِنْ فاتحين احتضنتهم، ومِن غزاةٍ لفظتهم. وفي محيط جنين تحققت المعجزة الرسولية بشفاء المسيح عشرةً من المرضى المصابين بالبرص.

إنها عين جينيم أو عين الجنائن أو جينين أو جنين في أفراحها، و "جينا" أو "جراند جرين" في أتراحها.

بعد طرد البيزنطيين منها في القرن السابع من الميلاد، استوطنتها بعض القبائل العربية، وتبعت إدارياً لجند الأردن وعاصمته طبريا. وإثر إعادة تحرير فلسطين تحريراً خالصاً في العهد المملوكي أصبحت جنين مركزاً للبريد الصادر والوارد من مصر ودمشق عبر غزة وصفد، وكان بها برج للحمام الزاجل الذي يحمل الرسائل بين الشام ومصر وكانت تحطُّ بها الهجن المحملة بالثلج الدمشقي في طريقها إلى القاهرة أيام الصيف.

وجنين عبر التاريخ حاضرة عمران ومدنية، ففي القرن السادس من الميلاد أقيمت أول كنيسة فيها، في مكان قريب من جامعها الكبير القائم حتى اليوم. وفي القرن السادس عشر أنشأ العثمانيون فيها جامعاً وحمَّاماً وتكية وعدة دكاكين. وفي القرن السابع عشر أنشأ فيها أمراء قبيلة حارثة الطائية أصحاب جنين مرافق عامة للمسافرين وعمال البريد والحجاج والتجار، منها خان وسبيل ماءٍ وحمام ومسجد ودكاكين. فقد كانت جنين نقطة مرور واستراحة بين مصر والشام لحجاج بيت المقدس وبيت الله الحرام وقلعتها مشهورة بتوفير الراحة والحماية والأمن للتجار والنازلين بأكنافها. فهي، كما وصفها في القرن الثامن عشر الشيخ مصطفى أسعد اللقيمي في مخطوطته: "سوانح الأنس في رحلتي لواد القدس".

فيها ثلاث للسرور تجمعت        الماء والخضرة والوجه الحسن

وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر، شهدت جنين حركة عمرانية واسعة وازدهاراً في جميع أوجه الحياة فيها. وفي مطلع القرن العشرين ربطتها الطرق المعبدة وخطوط السكك الحديدية بما يحيطها من مدائن وبلدات فلسطينية كالعفولة وبيسان ونابلس.

وارتفع عدد سكان مدينة جنين سنة 1948 من أربعة آلاف نسمة إلى عشرة آلاف، بسبب تدفق اللاجئين الذين طردتهم العصابات الصهيونية من القرى والمدن المجاورة عليها، ليصل في سنة 1978 إلى ثلاثين ألفاً، مما أدى بأهلها إلى البحث عن مصادر الرزق خارج فلسطين وبخاصة في البلدان الخليجية، حيث تنقطع الأنفاس من الجري خلف رغيف الخبز الهارب عبر الصحراء.

وتعرضت جنين عبر تاريخها لغزاة طامحين ومستعمرين طامعين قتلوا أهلها ودمروها وخربوها، لكنهم في النهاية أُخرِجوا منها وظلَّت مخرزاً في عيونهم وعظامهم. فقد خربها دوق أدنبره الفرنجي في سنة 1103 ميلادية. وخربها نابليون بونابرت في سنة 1798 في محاولة منه لكسر شوكة أهلها الأشداء. وخرب الأتراك بعض قراها مثل عرابة معقل آل عبد الهادي الثائرين على الحكم العثماني في منتصف القرن التاسع عشر. وجعل الألمان في جنين مطاراً لهم خلال الحرب العالمية الأولى واتخذوا منه مركزاً لسلاحهم الجوي. واحتلها الجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللنبي بعد أن طرد حاميتها التركية والألمانية منها في 25/9/1918م، فأصابها ما أصاب سائر فلسطين من أذى الاستعمار الفرنجي الصهيوني الغاصب وتخريبه.

وكانت جنين طوال العصر الحديث هدفاً للمجازر البريطانية وعمليات الهدم والتدمير والقتل التي كانت تقوم بها قوات الانتداب. وتحدياً لنضال أهلها اختارها الانتداب مقراً لإذاعته الاستعمارية الموجهة للشرق العربي باللغة العربية، وفي 14/5/1948م انسحب منها الإنجليز تاركين أسلحتهم ومعسكراتهم للعصابات اليهودية التي تمكنت من احتلال بعض قراها، إلا أن صمود أهلها وصمود الجنود العرب العراقيين فيها واستبسالهم في الدفاع عنها قد أخَّر سقوطها، في 10 حزيران من عام النكبة الكبرى، لتسعة عشر عاماً أخرى، وقد هلك من الغزاة اليهود في محاولة احتلالها سنة 1948 حوالي ألف وخمسمائة هالك، لكنهم عادوا إليها سنة 1967، فخربوها تخريباً تلمودياً مبرمجاً، بلغ ذروته أثناء انتفاضة الأقصى.

وظلت جنين طوال تاريخها معقلاً هاماً من معاقل انتفاضات الشعب الفلسطيني، تحتضن الثوار والفاتحين، والفدائيين والاستشهاديين، قبل النكبة الكبرى وبعدها. فبعد انتصاره في حطين بات فيها الناصر صلاح الدين ليلة، وهو في طريقه إلى بيسان، ومن قرية يعبد الجنينية انطلقت ثورة المجاهد الشهيد الشيخ عز الدين القسام سنة 1935، وفي مثلثها شهدت ثورة 1936 أشد معاركها ضد المحتلين الإنجليز والغزاة الصهاينة. وعرفت جنين ببطولات فدائييها المجاهدين، ومنهم في العصر الحديث، المجاهد علي أبو عين بطل العملية الجهادية النوعية في آب 1938، ضد الحاكمية العسكرية البريطانية بصانور. وصقر المثلث، شهيد صانور أيضاً، في معركتها الكبرى في 26/3/1939، القائد المجاهد أبو كمال عبد الرحيم الحاج محمد العنبتاوي ومحمود طوالبة (النورسي)، الذي حلَّقت في الآفاق أخبار استبساله واستشهاده في الدفاع عن مخيم جنين للاجئين الفلسطينيين ضد الهجمة الشارونية البوشية العنصرية، ومثله أبو جندل ضابط الأمن الذي تمترس مع النورسي في خندق واحد متحدياً أوامر القيادة المشبوهة، حيث صمدت قلة من المجاهدين بأسلحتهم الشخصية الخفيفة صموداً أُسطورياً طوال أحد عشر يوماً في وجه رابع أقوى جيوش العالم المعاصر وأكثرها دموية وانتهاكاً للقوانين الدولية وحقوق الإنسان، إلى أن نفذت ذخيرتهم ومؤونتهم، وحين عزَّ النصر قاتلوا واستشهدوا كالأشجار واقفين، ولم يستسلموا، فانغرز صمود المخيَّم، بسكانه الخمسة عشر ألفاً، ومساحته التي تتجاوز قليلاً الكيلومتر المربع الواحد، مخرزاً في عظم الصهاينة المستعمرين. وقد خلَّد الشعر الفلسطيني، منذ عبد الرحيم محمود بطولات هؤلاء الأبطال كما في قصيدة ناهض منير الريس في "صقر المثلث" القائد عبد الرحيم الحاج محمد:

عبد الرحيم أجل وإنك أهلها      هي ثورة مشبوبة بضرام

لما ركبت المخاطر لم تسل        ووقيت شر الشحّ والإحجام

هل كان بعد الانتداب ونحسه     غير الجراد الجائع الحوّام

صهيون في التاريخ مصاص الدماء      فاجعل له بالنار شر فطام

وكما في مسرحية برهان الدين العبوشي (جنين 7/12/1911 ـ بغداد 8/2/1995) "شبح الأندلس" الشعرية التي اتخذ من معركة جنين الكبرى في البقاء على أرض الوطن منذ صدور قرار التقسيم الجائر في 29/ نوفمبر/1947 موضوعاً لها. ولما قدَّم لها، حلَّل الأمورَ بمعطياتها، ما ظهر منها وما بطن، في ظل استفراد قوى الاستكبار الفرنجي الصهيوني، ومن داروا في فلكه، بالشعب الفلسطيني، الذي وقف وحيداً في المعركة، فتبدت له سحب المأساة، ومن خلفها شبح الأندلس، وتسرَّب إلى نفس الشاعر إحساس بأن ما أصاب الأندلس قد يصيب فلسطين، فصَّور، تحت وطأة هذا الهاجس، تضحيات أهلها ودفاعهم المستميت عن الذات والديار والمقدسات تارةً، وراح يُنْذِر الأمة ويحذرها، ويستنجد بها ويدعوها لرص الصفوف والتماسك، ضد الهجمة الاستعمارية تارةً أخرى.

فمن جنين أوشك المقاومون الفلسطينيون والجنود العراقيون، على تحرير حيفا وشطر الكيان الصهيوني، ولم تكن قد تثبتت أركانه بعد، شطرين، لولا دور الحكام الوظيفيين الذين تحركهم اليد الأجنبية، الأمر الذي دفع البطل راغب باشا رئيس أركان الجيش العراقي في جنين للاستقالة على ما بدا له من مسرحية تهدف لغرز الدولة الصهيونية الفرنجية على أرض الإسراء والمعراج.

فقد أحب جنين بخضرتها ومائها ووجها الحسن كلُّ من نزلها ضيفاً أو صريخاً، إذ وجد الجيش العراقي من أهل جنين كل رعاية ومحبة واحتضان،  ولا يزال أهل فلسطين، يواظبون على زيارة مقابر الجنود العراقيين في نابلس وجنين، يرشون قبورها بالماء، وهم العطشى في ظل الحصار الصهيوفرنجي الكامل والشامل، المسكوت عنه بالتواطؤ الرسمي العربي. إنه احتضان الأخ الصريخ للأخ الصريخ. وخير شاهد على ذلك ما كتبه القائد الكبير محمود شيت خطّاب ضابط ركن جحفل اللواء الرابع العراقي الذي رابط في جنين في شهادته "لمحات من إنسانية أهل فلسطين ممثلة بأهل جنين"، وقد عاش في أكنافهم رفيق جهاد سنة كاملة حيث يقول:

أجنينُ إنك قد شهدت جهادنا     وعلمتِ كيف تَساقطتْ قتلانا

أجنينُ لا أنسى البطولة حيةً      لبَنيكِ حتى أرتدي الأكفانَا

أجنينُ بلد الكرامِ تجلديما ماتَ ثأرٌ ضَرَّجَتْه دمانا

لا تعذلوا جيش العراق وأهله    بلواكم ليست سوى بلوانا

إن السِّنان يكون عند مُكبَّل       بالقيد في رجليه ليس سنانا

… … … ….

المُخلصونَ تسرَّبوا بقبورهم     والخائنون تنسموا البُنْيانا

إن الخلودَ لمن يموتُ مجاهداً    ليسَ الخلودُ لمن يعيش جبانا

والشيء بالشيء يُذكر، فمنذ تلك الأيام التي تصدى فيها أهل جنين ومعهم الجنود العراقيون جنباً إلى جنب، لمخرجي المسرحيات التخاذلية الذين تحركهم اليد الأجنبية، والمؤامرة لم تتوقف حتى استعمرت جنين وحوصرت وسُلِبت أراضيها ودُمِّرت بنيتها التحتية، وذُبِح أهلُها وأُبيد مخيمُها، في طقوس تلمودية ساديَّة؛ وفَتَك بالعراقِ الأبي داءُ الحصار الصهيوفرنجي، فقتل أهله ودمر مدنه وسلب خيراته واحتله وصادر قرارَه ومستقبلَه، و"الاخوة"، في كمب ديفيد وحفر الباطن ولندن وواشنطن، يطالبونه بتنفيذ قرارات ظالمة، ويتخاذلون عن مطالبة الكيان الصهيوني التلمودي بتنفيذ قرارات عادلة، وكأن الشاعر جميل صدقي الزهاوي قد عاش ليشهد مأساة وطنه ويشهد مجزرة مخيم جنين ويقول في هؤلاء الأخوة الجواسيس وفينا، بعد أن انتهت مسرحية حصار المقاطعة بإعدام مجاهدي الانتفاضة أو تسليمهم للعدو أو إبعادهم عن أرض الوطن أو اعتقالهم لدى سلطة أُسلو، أو لدى الانتداب البريطاني الأمريكي الجديد، وإلغاء حق المقاومة ووصفه بالعنف والإرهاب وإدانته:

وأبْخَلُ أرض بالرجولة بقعةٌ      يُضام الفتى فيها ولا يَتَبَرَّمُ

فما بالُ أبناء العروبة أصبحتْ    على الذلِّ أشتاتاً تشُبُّ وتَهْرَمُ

وما خفقانُ القلبِ ما أنتَ سامعٌ   ولكنَّهُ آمالُ قومٍ تتكَسَّرُ

ولكن إطلالة جنين الحق والخير والجمال والتحدي، علينا، بهامة مخيمها، من علِ، واحتضانها، كما نابلس، لرفات أولئك الجنود العراقيين في مقبرتين، تلقيان العناية والتبجيل من أهلنا، حتى اليوم، تمنحنا الأمل في النهوض من ركام الواقع، وتمدنا بالعزيمة لمواصلة الصمود لتحقيق سلام البلاد والعباد كاملاً عادلاً، في ظل أمن قومي أوسع وأشمل، لا مكان فيه "لشهداء السلام الأمريكي الصهيوني وشجعانه!!".

مدريد

في يوم الذكرى الرابعة والخمسين لطرد المحتلين الصهاينة من جنين على يد المقاومة الشعبية الفلسطينية والجنود العراقيين
بقلم:د.محمد عبدالله الجعيدي