ـ كثيرةٌ هي المواهبُ التي لم تُكتب لها الحياةُ , وذلك لأنها دُفنت في رمال اللامبالاةِ , وغُيِّبَتْ في غياهبِ الإهمال , أو دُسَّ بها في تراب السخرية والتهكّم , وهي لا تزال وليدةَ الفكر والَحِجى , ورضيعةً في مهد الإبداع .
ـ لماذا نقتل الموهبةَ عند كثيرٍ من الصِّغار الذين خُلقوا وخلقت معهم مواهبُهم ؟!, ولماذا لا ننمّي تلكَ الموهبةَ , ونسقي غراسَها من زُلال تجاربنا , ومن فرات تشجيعنا , و ومن مَعين اهتمامنا حتى تُصبح نخلةً باسقةً لها طلعٌ نضيدٌ ؟
ـ كان حرِيّاً بكثيرٍ من الفاشلين أن يكون لهم في الحياةِ وبعد الممات شأنٌ يُذكر , وقيمةٌ كالقمّة في هام المجد, وخلودٌ عابقٌ بالشذا على مرّ الدهور , لكنّهم فشلوا , ولم يُكتب لهم النجاحُ !. أتدرون لماذا ؟! لأنَّ مواهبَهم وُئِدت وهي حيةٌ , ولم يجدوا لم نصيراً ولا مُعيناً , بل هدَّم كثيرٌ ممن حولهم صرحَ الموهبة العامرَ في نفوسهم, وجعلوه فُتاتا تذرُوه الرياح , ولو أن أحداً ممن كان حولهم أيامَ الطفولة انتشل تلكَ المواهبَ من براثن المنتقدين بسخافة لما كتب لتلك المواهب أن تموتَ , ولكنْ على العكس , إنهم قد ساعدوا في حفر الحفرة , وفي رد التراب ,…
ـ الموهبةُ ما هي إلا هبةٌ من الله , وهبةُ الله غير هبة البشر, لأن هبة البشر غالبا ما تكون ماديةً غيرَ قابلة للنّماء , ومصيرُها إلى الزوال بعد حينٍ يسير…أما هبة الله فمعنويةٌ , تنمو مع صاحبها , وتبقى ملازمةً له ما دام فيه قلبٌ ينبض , وعين تطرف , والله يهَبُ المواهبَ لمن يشاء…
ـ كم من صاحبٍ كان معنا في مقعد الدراسة , وله من المواهب ما اللهُ به عليم , لكنه فشل في نهاية المطاف , فتأملنا في فشله , فرأينا أن الأسباب قد تكون :
إما لعدم اهتمام الأهل به , وإما لتعرفه على ثلة من أصدقاء السوء الفاشلين , أو لأن بعض الْمُدَرسين كانوا ينعتونه بالفشل دوماً , فأثّر ذلك في شخصيته , وَوُئدت مواهبُهُ وهي ـ كما أسلفنا ـ لا تزال في بداية الحياة…
ـ هناك ارتباطٌ وثيق بين علو الهمة وبين الموهبة , فالمواهب التي لا تُحفزها همةٌ عالية , و لا تسمو بها نفسٌ توّاقة للمجد والخلود, ولا يشدها إلى العلياء طموحٌ وثّاب , تَسَّاقطُ من صاحبها رويداً رويداً كما تسَّاقطُ أوراق الشجرة في الخريف.. لتصبح فيما بعد عاريةً متجمدةً في صقيع الشتاء…
ـ المواهب تحتاج إلى تقويم وإرشادٍ , وإلا فإنها ستهوي بصاحبها في مهاوي الضلال , وتلقي به في مستنقع الرذائل , وستتركه بلا فُلك في بحار الانحراف وغياهب الضياع…فالمتأمل في الحياة يرى أن اللصَّ صاحبُ موهبة , لأنه يخطط ويبدع في تخطيطه قبل السرقة , ولكنه لم يحسن استخدامَ تلك الموهبة , وكذلك فإن الماكرَ المخادعَ صاحبُ موهبة , لأنه لم يخدع إلا بعد إعمال الفكر, وبمساعدةٍ من الشيطان والنفس الأمارة بالسوء , فهو صاحب دهاء وذكاء , لأنه فكَّر وقدَّر , ولكنه استخدم مكره وذكاءَه في الضلال, وأعملَ فكره فـي الخداع , فقُتل كيف قدّر , ثم قُتل كيف قدر !…
… ليت شعري ! ألا ترى معي أيضاً ـ أيها القارئ الكريم ـ أن النفاق أيضاً موهبة ! لأن النفاق والمراوغةَ فنٌّ يتقنه في زماننا كثيرٌ من الناس , وهذا الفن موهبةٌ , ولكن صاحبَها لم يحسن استخدامها, بل إن فنّ النفاق لا يحسنه إلا المنافقون الكاذبون لأن الصادق لا يكون ذا وجهين , وذو الوجهين ـ كما تعلمُ ـ لا يكون عند الله وجيهاً…وعلينا أن نقيس الأمورَ على ذلك , فكل واحد منها قد وهبه الله الكثيرَ من الهباتِ , وأسدل عليه الكثيرَ من النعم , ولكنْ , كلُّ موهبة لم يحسن صاحبُها استخدامها تتحول من نعمة إلى نقمة , ومن منحَة إلى محنة , ومن عطاء إلى منع , ومن هدىً مشرقٍ إلى ضلال مبينٍ .

بقلم : مصطفى قاسم عباس