معارك متجددة بأدوات متخلفة
قد يكون العنوان مثيرا بعض الشيء، لكن الحقيقة الماثلة أمامنا اليوم دون مواربة أو محاولات ساذجة من قبل بعض العرب والمسلمين هي أننا في معركة وجودية لايمكن أن نخوضها بأدوات تقليدية وأسلحة "مبرّدة" وفاسدة، او على الأقل ليست مكافئة لحجم المعركة.
الجبهات كثيرة: سياسية واقتصادية واجتماعية وقيمية وتربوية وإعلامية. وعلى الجبهات كلها عدو واحد يتدثر بأردية مختلفة. ولعلي لا أبالغ عندما أقول إن معركتنا الحقيقية اليوم ليست فقط مع الأعداء التقليديين من المستعمرين الجدد لعقول أبنائنا ومشاعرهم وأذواقهم وأمزجتهم. إن معركتنا اليوم مع فئات كثيرة من أبناء جلدتنا، الذين هزموا روحيا وفكريا ويسوقون لهذه الهزيمة بحماس منقطع النظير، مستخدمين كل الأسحلة الفتاكة التي لا تقتل الأجساد الغضة، ولكنها تستعمر الأرواح و النفوس والعقول والقلوب.  
هذا الاستعمار القديم – الجديد لن يتوقف أبدا "ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا". فالهدف هو الدين الحق الذي يربي على العزة و ينمي في المسلم الرغبة الحقة في حياة كريمة، ويغرس فيه الشعور بالانتماء إلى الدين و الأرض ويشعره بقيمته الحقيقة، ويرسم له طريق النجاة في الدنيا والآخرة.
إن أهم سلاح في معركة اليوم هو الوعي بطيعية هذه المعركة، وفهم أساليبها وأدواتها ومراميها واختيار الجند المناسب لكل معركة. والمغالطة التي يحاول "التنويريون" تسويقها هي أننا لانستطيع أن نكون مختلفين عن "الآخر"، إذا أردنا أن نصنع لأنفسنا موقعا على خريطة هذا العالم.  ولعل من أوسع أبواب الهزيمة أن تقاتل بالوهم والخرافة وتستخدم أدوات عفى عليها الزمن، فتكون النتيجة هزائم مضاعفة.
إن اختيارالمعركة: أرضا وسلاحا وأدوات أول مقومات النصر. وإن أي فهم مغلوط لطبيعة المعركة، سيكون الدمار نتيجة حتمية لذلك الفهم.
معركة الوعي تقتضي إدراكا حقيقيا للعدو، وفهم مايريد، وإساءة الظن بكل ما يأتي من ذلك العدو الإبليس الذي يلبّس على الكثيرين برفع عناوين برّاقة: التقدم والتنوير والتحديث والحداثة.
ولعل أكبر الأخطاء التي نمارسها اليوم نحن العرب و المسلمين، أننا استدرجنا لخوض معارك وهمية، وأضعنا فيها الكثير من الجهد والمال والوقت أزهقت فيها الأرواح البريئة بابخس الأثمان.
معركتنا اليوم معركة افكار ومبادئ وقيم أكثر من معركة على جغرافيا. إذ كيف تتحرر الجغرافيا بأيد قوية وعزائم حديدية، ولكن تُوجهها عقول كليلة وأفكار عليلة. هذه العقول الكليلة والأفكار العليلة هي التي أدت إلى أن يتجه كل فريق إلى معركته وحده، فضاعت القوى وانحرفت البوصلة، ومات الأمل لدى الكثيرين أمام زخم الهزائم المتلاحقة.
قد تبدو الأمور طبيعية عندما تتعدد ساحات المعركة أن ينفر كل قوم للقيام بدورهم في هذه الساحات، ولكن بعد فترة سنجد أننا نخوض معارك دونكسشوتية باسياف خشبية قد ترضي بعض الغرور وتقدم للبعض نوعا من الراحة النفسية بتضخم الشعور بالرضى عن الذات بدعوى القيام بالواجب، ولكن النتيجة مزيد من التراجع والانكاسات.
لقد مررنا بتجارب كثيرة خلال العقود الأربعة الماضية: هزائم عسكرية على أرض العراق و أفغانستان وفلسطين وسوريا وسياسية فكرية في مصرودول الخليج وغيرها من بلاد العرب. والمصيبة أننا نخوض المعارك السياسية  والثقافية والتربوية والفكرية والعسكرية بنفس العقلية والأفكار والأدوات دون تمييز واجب بين هذه المعارك. فميدان المثقف والمفكر والإعلامي غير ميدان الجندي و المجاهد، وميدان التربوي غير ميدان السياسي وهكذا. وهناك فرق بين تكامل الأدوار وتمازجها واختلاط بعضها ببعض.
ومن المثير أن نسمع ونقرأ خطابا واحدا لهؤلاء جميعا والممارسات –تقريبا- واحدة، ولذلك تكون النتائج أيضا واحدة. فهل من المعقول أن يكون خطاب البرلماني الإسلامي، والحزبي والمنظّر والمفكر هو نفسه خطاب المجاهد والعسكري؟  هل من المعقول أن يتقدم الجميع لخوض كل المعارك وهم ليسوا أكفاء ولا متمرسين ولا قادرين على خوضها؟
ويبدو أن طبيعة التربية  في الحركات الإسلامية الحديثة قد أغفلت شيئا من مبادىء التربية النبوية وقوانيها وممارساتها. فهل كان على حسّان الشاعر أن يخطط لمعركة يقودها سعد؟ وهل كان على عمروبن العاص أن يفكر بنفس تفكير خالد؟ وهل تفكير   علي مطابق لتفكير عثمان وعبدالرحمن بن عوف؟ فحسان شاعر وخالد وسعد عسكريان، وعمر مفكر ومستشرف للمستقبل والبراء استشهادي عظيم  وعبدالرحمن بن عوف اقتصادي ماهر، وعمرو بن العاص مفاوض ماهر. فكيف أغفلنا في تربيتنا كل هذا؟
تجديد الأدوات وطرائق التفكير والتربية المتخصصة والمتوازنة وتوزيع الأدوار بحكمة وحنكة أولى الخطوات في طريق طويل مضمون النتائج إذا أخلصنا النوايا وأُخذنا بالاسباب واعتصمنا بحبل الله المتين.

د.صالح نصيرات