د. صالح نصير
العمل الإسلامي: من ضيق التنظيم إلى سَعة المجتمع
ينظر كثير من المسلمين بأمل كبير للعاملين للإسلام. فهم امل هذه الأمة بالتغيير. وقد اتجه العاملون للإسلام في أهدافهم وطرائق عملهم مذاهب واتجاهات شتى. واصبح كل فريق يعتقد بأن طريقته في العمل هي الأكثر نجاعة وأثرا في التغيير. وللحقيقة فإن غياب منهج التكامل بين العاملين للإسلام، جعل التكرار سمة غالبة. فالعاملون الذين يجمعون بين الدعوة والسياسة يرون أن هذه المنهج نابع من حقيقة الإسلام الشاملة،أما الذين يفضلون العمل الدعوي فقط فهم يعتقدون بأنه منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفريق آخر يرى ان بثّ العلم الشرعي خصوصا في الأمور العقدية هو الحل.
وللأسف الشديد أن كل فريق يعيش حالة من "السجن" الطوعي لأفكار وأساليب في العمل مضى عليها قرون، دون محاولات جادة للخروج من ذلك السجن. ولأن الحياة اليوم أكثر تعقيدا، والأوضاع العامة تختلف في كثير من مظاهرها عن السابق، فإن من الضروري أن يضع العاملون للإسلام في حسابهم عملية تغيير لتلك الطرائق و الأساليب. فيتخلصون من حالة "التقوقع التنظيمي" وينتقلون إلى ساحة المجتمع الرحبة من خلال أعمال وانشطة تمس حياة المواطن بشكل مباشر.
ففي عالم اليوم، اصبحت حقوق المواطن لا تؤخذ تلقائيا، بل لابد من المجاهدة و العمل المؤسسي الجاد للحصول على تلك الحقوق. فبالرغم من وجود دساتير تضمن الحقوق الأساسية للفرد، إلا أن تلك الحقوق لا تعطى للمواطن إلا في حدودها الدنيا. فحق التعليم والصحة وتكافؤ الفرص في التوظيف والشغل والمشاركة السياسية والعمل مرهونة بقدرات السلطات التنفيذية وإمكاناتها المتوفرة، فضلا عن الجدية التي تغيب كثيرا في كفالة تلك الحقوق وضمان وصولها إلى اصحابها.
ولأن العمل الإسلامي يستغرق جانبين مهمين هما السياسة والدعوة الدينية الخالصة، فإن أمورا كثيرة لا تشغل بال العاملين، إلا في مناسبات معينة، والذي يكون النشاط والعمل فيها ليس أكثر من بيانات أو محاضرات أو دروس عامة ومواقف في بعض المجالس أو الإدارات محدودة الصلاحيات.
فالسياسة عند غالبية العاملين للإسلام  تعني في كثير من الأحيان أمورا ضيّقة جدا تتعلق بالسياسات الخارجية للدول، والتأكيد على استقلالية القرار السياسي وداخلية محصورة في حق المواطن في مشاركة أكبر في العمل السياسي.  وهذا تضييق لواسع. فالسياسة لابد أن تشمل كل الجوانب الحياتية للمواطن، وتجعل حقوق المواطن في مجالات الحياة كافة أولويات لها. فحق التعليم وجعله ميسرا ومقدورا عليه، وتوفير مؤسسات محترمة  وضمان حقوق للحصول على الرعاية الصحية، والإدارة الصحيحة للموارد، وحق الشغل في مجتمع يحترم الكفاءات ويقدّر اصحاب الخبرات أمور لاينبغي جعلها في ذيل اهتمامات العاملين. بمعنى أن تكون الجماعات الإسلامية جماعات وطنية مجتمعية تنفتح على المجتمع وتوسع من دائرة الاهتمام به في كل حين وليس فقط في مواسم الانتخابات.
وهذا التغيير في الأولويات يحتاج إلى كوادر مدربة على العمل الاجتماعي وقادرة على فهم متطلبات المواطن، فضلا عن وعي حقيقي بالحياة التي يعيشها المواطن من خلال التواصل المستمر معه. وللحقيقة أن كوادر الحركات الإسلامية لايملكون الكثير من المهارات والقدرات التي تمكنهم من التواصل مع أفراد المجتمع. فالمواطن لايريد "أوصياء" على تدينه وأخلاقه، بل يريد "مشاركين" له في همومه وقضاياه. وعندما يشعر المواطن بأن الحركات الإسلامية تعطي حقوقه أولوية وتشاركه همومه مشاركة حقيقة، سيكون الأمر مختلفا عن الاهتمام به في مواسم بعينها وبطريقة تُشعر المواطن بانه أقل علما او تدينا من ابناء الحركات والجماعات الإسلامية.
وقد يدافع بعض العاملين عما يقومون به من جهود "خيرية" وتوزيع لبعض "الخدمات" البسيطة للناس، على أنها جهود موجودة ضمن الممكن و المتاح. ونحن هنا نقصد أن يتفهم الدعاة الأمر على أن حقوق للمواطن ليست مجرد "صدقات أو هبات" تُقدم تحت الأضواء للدعاية الانتخابية او "لاستقطاب" الأفراد للتنظيمات. فالمواطن يريد أن تُحترم قدراتُه وكفاءاته وخبراته وتوضع في مكانها الصحيح بتوفير الشغل والحصول على "رزقه" بكرامة واحترام لآدميته.
أما الدعوة في مجالها الديني والقيمي والأخلاقي، فإن هذا الأمر توليه الحركات الإسلامية اهتماما اكبر من تلك التي تتعلق بالحياة اليومية للمواطن. فالمناسبات الدينية والتاريخية وكذلك المواعظ والدروس والنشرات تركز على هذا الجانب.   وقد يطغى على الدور الرسمي للمؤسسات التي تنشئها الدول العربية والإسلامية لنشر القيم الدينية والعلوم الشرعية، مما يجعل مجال التنافس كبيرا، وهنا ينشأ الخلاف بين الدعاة الرسميين وابناء الحركات الإسلامية. ولذلك فالحل هو التعاون بين الطرفين دون الدخول في صراعات على بعض القضايا وتبادل الاتهامات. فقد خسر العاملون في الحركات الإسلامية  الكثير من العلماء والوعاظ والشيوخ بسبب ذلك التنافس غير المبرر، حتى ترسخ في أذهان الكثيرين أن المؤسسة الدينية الرسمية ليست سوى توظيف من قبل الحكام لمنحهم الشرعية الدينية. وهذا ليس حكما موضوعيا. ففي المؤسسات الدينية الرسمية غالبية محترمة تحب دينها تعمل بجد وإخلاص لهذا الدين.
ولذلك فإن منح الاهتمام المجتمعي نسبة اكبر من الاهتمام بالعمل السياسي الضيق أو الدعوي الخالص ستكون له الآثار الإيجابية على العلاقة مع المجتمع وستكون نتائج العمل ملموسة في التغييرالذي سيطرأ على القيم التي تساعد الأفراد على مساهمات أكثر إيجابية في خدمة مجتمعاتهم.