الحضارات تبنيها المبادىء وتهدمها الشهوات
د. صالح نصيرات
الحضارات تبدا عادة وتنطلق من رحم فلسفة معينة في الحياة. وقد تكون تلك المبادىء سامية وإنسانية، ولكن الحضارات تتحول إلى إمبراطوريات لا تلبث أن تنسى مبادءها، فتسقط في الاختبار. فمن قوة تحرر للإنسان تحول إلى قوة غاشمة مسيطرة تريد فرض ما تؤمن به دون اعتبار للآخر فضلا عن الحاجة الماسة إلى الموارد مما يحولها إلى قوة احتلال واستيطان. وهذه الظاهرة يمكن ملاحظتها في عامة الحضارات: الرومانية والأوروبية اليوم. والخضارة الإسلامية استثناء من هذه الحال، لأن انحسارها كانت له أسباب أخرى.
فالحضارة الرومانية قامت على أسس من الحرية الفردية والتنظيم الإداري و القانوني، و تركت بصمات مهمة في مجال الهندسة والعمارة. ولكن الصراعات الداخلية والانحلال والانغماس في متع الحياة على حساب الآخر، أدت إلى انهيارها رغم أنها عمرّت طويلا خاصة عندما انتقل مركز القيادة من روما إلى القسطنطينية.
بدأت الحضارة الإسلامية مع البعثة النبوية التي قامت على أسس من العدل والرحمة و التوحيد، وارتقت فيها الممارسات الإنسانية، وإن لم تخل من أخطاء في مسيرتها. ولكن عندما انغمست الأمة في الشهوات الكثيرة المادية والمعنوية، وهنت شوكتها واصبحت مطمعا لقوى خارجية من الصليبيين والتتار ثم الاستعمار الحديث. هذه مع عوامل التحلل الداخلي والصراعات السياسية والمذهبية لم تستطع مقاومة الغزو الخارجي، ودارت عليها سنة الله سبحانه وتعالى. وعندما تفقد الأمة القدرة على الاستجابة المناسبة للتحديات، فإنها تصبح لقمة سائغة للقوى الناهضة، فحق عليها السقوط والتراجع.
والحضارة الغربية الحديثة، قامت على التنوير والحداثة ورفعت شعارات الحرية والإخاء والمساواة، أملا في التحرر والتخلص من عقابيل الشرور التي تركها الحلف القوي بين رجال الدين والأباطرة والإقطاع. وقد اغترت أوروبا بقوتها بعد سلسلة الاكتشافات العلمية التي أدت إلى ثورة صناعية مرت بمراحل متعددة، وصلت اليوم إلى الذروة في الصناعة والتنظيم، والقدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والمادية تحديدا، والتي جاءت بها الحربان العالميتان الأولى والثانية. ولعل آثار الحربين العالميتين كانت كبيرة على الروح الأوروبية، إلى درجة فقدان الثقة بالذات، وانتشار اليأس والإحباط كما صوّره أدباء ومفكرون غربيون كثر. ولكن رغم ذلك استطاعت الحضارة الغربية أن تطور من نفسها وتستجيب للتحديات، فيسطرت على عقول وقلوب الكثيرين من بني الإنسان. إذ اصبحت مرادا وغاية للكثيرمن قادة العالم، فتأثروا بها، وحاولوا تقليدها خاصة في عالمنا العربي و الإسلامي هذه الحضارة التي لا يتجاوز عمرها القرون الأربعة، سائرة نحو السقوط. فقد تحولت المبادىء التي قامت عليها إلى مسوغات للسيطرة على البشر من خلال فرض ماتؤمن به من قيم ومبادىء تحلل للناس ما حرم الله، وتضع الدين في آخر اهتماماتها. ولتنفيذ مخططها في السيطرة على العالم، اسست منظمات ومؤسسات عابرة للعالم وقادرة على فرض ماتريد، فالبنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، والأمم المتحدة ومنظماتها الفرعية الأخرى، اصبحت وسائل للسيطرة المادية والفكرية على الآخر الضعيف في الجنوب والشرق، كما غرتها القوة المادية الهائلة والمتمثلة في الالقنبال النووية والاسلحة المدمرة التي لاتراعي حرمة البشر دون وازع من خلق أو مبدأ. ففي ظله هذا الغرور هذا الغرور نشأ الرجل الأبيض على مبادئ عنصرية تجعل الآخر بمثابة العبد يعمل من أجل خدمة الإنسان الغربي. فتحول كل من تاثر بها إلى إنسان بهيمي التطلعات، لايعبأ بمبدأ ولا قانون سنّه هو نفسه. حتى قال الرئيس نيكسون عام 68 خلال كلمته التي ألقاها على درجات الكابيتول يوم تنصيبه ” نحن أغيناء في المادة، فقراء في الروح” ولذلك تحول الهم اليومي وحتى المستقبلي للفرد و للساسة الغربيين هو توفير حياة رخية ملؤها الشهوات. فظهر الشذوذ والانحرافات الأخلاقيات، وعاد قوم لوط يمارسون عاداتهم القبيحة وفعلتهم الشنيعة على قوارع الطرق دون رقيب أو حسيب، بل أصبح من يعارض ذلك “عنصريا”. وظهرت على وجهها بثور التخلف القيمي المناقض لما جاءت به من مبادىء. وما تعانيه اليوم من صدود من قبل قوى فكرية وثقافية وسياسية متحررة من قيود السياسة، جعل الغرب في عمومه محط كراهية الشعوب المستضعفة التي تتمنى زواله، وتنشد التخلص من الاستسلام له ولقوته. ولهذا نرى صعود دول كالصين، ومحاولات روسيا اليوم الوقوف في وجه أوروبا العجوز عبر الآلة العسكرية. فظهرت أوروبا وامريكا عاجزتين عن الوقوف إلى جانب أوكرانيا عسكريا، لوقف الاحتلال الحتمي لها من قبل الدب الروسي. وهذا كشف عن عوار حقيقي فيها. فردة الفعل الغربية والمتمثلة في الحصار الاقتصادي والمقاطعة والتسليح الخجل للأوكرانيين يعني أن الغرب غير مستعد لخوض حرب من أجل الآخر، حتى لو كانت قيمه الأخلاقية على المحك. فالغرب اليوم لايريد السقوط في حرب عالمية ثالثة حقيقية، تدمر ما بناه من عمران وتقدم مادي وتعيده إلى العصر الحجري في لمح البصر.
إن شهوة التسلط والسيطرة والانحلال القيمي والأخلاقي المشهود لن يكون بمنأى عن حتمية السنة الإلهية في القضاء على كل من استكبر وتجبر ونصّب نفسه إلها على البشر ” فقال أنا ربكم الأعلى، فأخذه الله نكال الآخرة والأولى”. فهذه حالة فرعونية تظهر بلا مواربة. وسنة الله قائمة ولا تتبدل “ولن تجد لسنة الله تبديلا”، وهي إهلاك الذين يعلنون الفسق، ويأمرون الناس به، بل يقننون لحمايته من الآمرين بالمعروف الذين أصبحوا قلة لا تبالي بخوف أو إغراء. وسيأتي يوم يرددون ماقاله أسلافهم “أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون”، ” ورغم حالة الإنكار لدى الساسة على وجه التحديد، إلا أن كثيرا المفكرين والمثقفين الغربيين يعرفون أن السقوط قادم و أن الدمار قد لاح في الأفق. وبهذا سيكون عمر الحضارة الغربية الأقصر بين حضارات العالم.