وقفت حائراً، تتملكني الدهشة أمام معرض كبير "سوبر ماركت"، أفرد قسماً كبيراً من مساحة المعرض لعرض مجموعة كبيرة ومتنوّعة من الموازين، الكبيرة والصغيرة، الحاملة والمحمولة، الإلكترونية والرقمية وذات العقارب، الملوّنة وبأشكال مختلفة ومغرية على الشراء، تتبارى كلها بدقتها في إقامة الأوزان، دقة متناهية تقيم وزناً لأجزاء الغرامات.

لست أدري لماذا داهمتني في الوقت نفسه صورة جدي، ودكان جدي في سوق عكا، والميزان العتيق بكفتيّه النحاسيتين، ومكاييله المتنوّعة مثمّنة الأضلاع، وكلماته التي كانت تمثّل لنا في ذلك الوقت البعيد، ونحن في سنّ الطفولة، ضرباً من ضروب الحكايات، دون أن نستشرف مراميها الأبعد.

كثيراً ما كنت، عندما أزور جدي في متجره، يروق لي أن ألعب بالميزان، تبهرني مرجحة كفتيه النحاسيتين، والكتل الحديدية أو الحجارة التي كان يستعملها للوزن، وكنت أراقب جدي عندما يبيع شيئاً من متجره، سواء من الحبوب أو الزيت أو السكر، كيف يحرص على تساوي كفتيّ الميزان تماماً، وبعد أن يطمئن إلى ذلك، يضيف إلى الكفّة التي تحمل البضاعة المباعة إضافة لتطغى على كفّة المكاييل، تجرأت مرة وسألته:

ـ لماذا يا جدي تضيف وقد استوفى الميزان حقّه.؟

يبتسم، ويقول بطيبة:

ـ زيادة البركة..

لم أكن أفهم ماذا تعني كلماته، وماذا تعني "زيادة البركة" وهو الذي لم يبخس الميزان.؟ لكنني لم أكن أجرؤ، لصغر سني، على محاورة جدي وهو في زحمة العمل في المتجر.

في ذلك المساء، كنا كما العادة ننتظر عودة جدي من المسجد عندما سألت أخوتي عن "البركة" لكنهم على الرغم من الآراء المختلفة من كلّ منهم، لم أصل إلى فهم أو قناعة، وهذا ما شجعني، معتمداً على سعة صدر جدي، أن أسأله.

وما أن عاد من المسجد بعد صلاة العشاء باشّاً مبتسماً ابتسامته الطيبة، قصدت أن أسارع إلى تقبيل يده، والتمسّح بعباءته المشمشية، ربّت على كتفي، وأخذ مكانه المفضّل وبين يديه سبحته الزيتونية، وقبل أن يبادرنا بأي حديث سارعت أسأله عن الميزان والبركة..

جمع السبحة بين راحتيه، ثم ألقى بها في حضنه وهو يبتسم بحبور، وقال:

ـ لقد قال الله تعالى في كتابه الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم "وأوفوا الكيل إذا كلتم"، وقال سبحانه: "ولا تبخسوا الميزان"، لأن الميزان هو دليل العدل بين الناس، ليس في مسألة البيع والشراء فقط، ولكن في كل أمر من أمور الناس.

نظر في وجوهنا يحاول التقاط فهمنا لما يقول، ثم تابع:

ـ أما أن أضيف إلى البيع بعد أن يستوفي الميزان حقه، فهو من أجل أن يبارك الله لنا في بيعنا وشرائنا، والله لا يضيع أجر المحسنين.

تبادلت مع أخوتي نظرات حائرة، التقطها جدي وقد أدرك أننا لم نفهم مراده تماماً.. تنحنح، واعتدل في جلسته وقال:

ـ يحكى أن سنة عجفاء قاسية لم تمنّ السماء على البلاد بخير المطر، وقد عانى الناس كثيراً من القحط والجوع والعطش، لم تجد المواشي الكلأ، وقد جفت الينابيع، ونضبت الأنهار، وأصاب الناس بلاء عظيم، وعندما اشتدت على الناس الشدّة، تنادى المنادون: أن هبّوا أيها الناس إلى قمّة التل، لإقامة صلاة الاستسقاء والتقرّب من الله تعالى، كي يخرجنا من هذا الكرب العظيم.

اجتمعت الناس منذ أبكر الصباح على قمّة التل، حفاة شُعثاً، صغيرهم وكبيرهم، شيوخهم ونساؤهم، ومواشيهم يتضرعون إلى الله أن يسيّل لهم من المزن ماء الحياة، وقد أشرفت الشمس على المغيب والسماء حابسة، والناس في هرج ومرج، انبرى شيخ البلد صائحاً بالناس أن انزلوا عن التل، وليصعد واحداً على إثر واحد، وكلّ يتضرع إلى الله بما أسلف من حسنات كي نرى ببركة من نرجو أن يمنّ الله علينا بالخير، وهكذا راح يصعد الواحد يتضرّع ويرجو الله ثم ينزل ويصعد آخر والسماء حبيسة لا تبشّر بأي عطاء.. ولم يبق في القرية كلها من لم يصعد إلى قمة التلّ ويتضرع غير رجل واحد، اسمه "أبو بلال"، كان صاحب دكان بقالة صغيرة يبيع للناس أهم حاجاتهم اليومية، وقد سألوه أن يصعد ويسأل الله البرّ، صعد الرجل هادئاً، وتطلع إلى السماء، ثم خاطب ربه بكلمات لم يسمعها أحد، وقبل أن يتمّ رجاءه وسؤاله، أطبقت السماء، وقصف الرعد، ولمع البرق وانصبّت من السماء سيول من الأمطار جعلت الناس المتجمعين يركضون على غير هدى هروباً من دفق المطر.

سكت جدي قليلاً يلتقط أنفاسه، فتبادلنا أنا وأخوتي نظرات متحفّزة ننتظر تتمة القصّة، رشف جدي رشفة طويلة من كأس الشاي بالنعناع، وقال:

ـ بعد أن آوت الناس إلى بيوتها، وارتوى الفرع والضرع، وتدفقت المياه في الأنهار، وضحكت الأرض والسماء، تسارع الناس إلى دكان "أبو بلال" ليقدموا له الشكر والسؤال، وأيّ مكرمة فعلها جزاه الله عليها كل هذا الخير، وقد بادره شيخ البلد بالسؤال عما قال وسأل الله حتى نال هذا الخير العميم، وكم كانت دهشة القوم عظيمة عندما ضحك "أبو بلال" ضحكة مجلجلة وهو يخرج من جيبه حصاة صغيرة لا يزيد وزنها عن غرامات معدودة وهو يقول:

ـ "لقد سألت الله أن يعطيني ثمن هذه الحصاة".!

بدت الدهشة على وجوهنا، وسؤال غريب يداهمنا أنا وأخوتي: هل ثمن حصاة يساوي كل ذلك الخير العميم.؟

قال جدي:

ـ وقد دهش القوم يومذاك أيضاً، لكن "أبو بلال" قال بهدوء يبدد دهشتهم،"لقد كنت في كل وزنة بيع، منذ افتتحت هذه الدكان وحتى يومنا هذا، أضيف هذه الحصاة حتى ترجح كفة البيع لصالح المشتري على كفّة المكاييل".

التفت جدي إليّ وهو يبتسم، مسح على وجهي بيده الكريمة وقال:

ـ هل أدركت معنى البركة وقيمتها وثمنها وجزاءها عند الله سبحانه، وعند الناس.؟

عندما تذكّرت هذه الحكاية وأنا أتفرّج على مجموعات الموازين الحديثة الدقيقة، قلت في نفسي:

ـ هل هذه التي أراها أمامي، بعض سبب في غياب البركات من حيواتنا.؟
بقلم:عدنان كنفاني