دارَتْ على نَفْسِها، فَالكَوْنُ مُلْتَهِبُ
كَأنَّها ثاقِبٌ طافَتْ بِهِ الشُّهُب
أوْ أنَّها لُجَّةٌ أهْدَتْ وَما صَبَأتْ
أوْ رُقْيَةٌ أفْصَحَتْ حِينَ الوَرى صَخَبُوا
دارَتْ فَدارَ الخَيالُ المُسْتَهامُ بِها 
يَبْني فَتَصْدَحُ في أجْوازِها القُبَبُ!
تَغْدو كَباسِطَةٍ كَفّاً بِغَيْرِ يَدٍ 
تُجْري وَتُمْسِكُ في الأحْداقِ ما تَهَبُ
فِيْها الأحِبَّةُ مِنْ خَلْقٍ، وَمِنْ أَثَرٍ
وَلَيْسَ يَجْمَعُهُمْ غَزْوٌ، وَلا سَلَبُ
كانُوا المَفازاتِ تَخْفى كُلَّما ظَهَرَتْ 
وَهُمْ كَواكِبُها تَبْدو، وَتَحْتَجِبُ
وَالشَّمْسُ تَمْخُرُ في أنْحاءِ لُجَّتِها 
وَطَوْفُها سارِبٌ كَاللَّيلِ يَنْسَحِبُ
دارَتْ فَفاضَتْ بِعَزْمِ العابِريْنَ 
وَتَدْري أنَّها ذَهَبَتْ في النّاسِ ما ذَهَبُوا
مَديْنَةُ اللهِ في الإنْسانِ شَيَّدَها 
كَما يَشاءُ لِمَنْ أصْفى مَتى طَلَبُوا
وَفي السَّرائِرِ دُوْنَ البَوْحِ أنْطَقَها 
فَمُ الزَّمانِ فَما عابُوا، وَما شَجَبُوا
فَاللهُ شاهِدُها إنْ أبْرَمُوا شَرَفاً 
وَاللهُ يُشْهِدُها في كُلِّ ما ارْتَكَبُوا
تَسَوَّرَتْها حُرُوفُ الضَّادِ، تَحْرُسُها 
كَما الرِّجالُ، إذا ما نابَها شَغَبُ
دارَتْ فَدُرْنا، وَلا نَدْري لَها سَبَباً 
وَدَوْرَةُ الفُلْكِ لا يُدْرى لَها سَبَبُ
الصَّمْتُ رَقْدَتُها، والحُبُّ يَقْظَتُها 
وَالحَقُّ جَبْهَتُها، وَالعِلْمُ وَالأدَبُ
وَأهْلُها في شِعابِ التِّيْهِ نَسْلُ هَواها
حَيْثُما ارْتَحَلُوا في الأرْضِ أوْ ضَرَبُوا
كُلُّ المَدائِنِ للأنْسابِ رُتْبَتُها 
إلّاكِ أنتِ لَكِ الأنْسابُ وَالرُّتَبُ
ما كُنْتِ في صِغَرٍ، يَوْماً، وَلا كِبَرٍ 
وَلا اعْتَراكِ، كَما البُلْدانُ وَالحِقَبُ
إذا انْقَضى زَمَني، أوْدَعْتُ حُبَّكِ
مَكْنُونَ الزَّمانِ، وَبِالأشْواقِ أرْتَقِبُ
فَأنتِ مَوْسُوْعَةُ الأبْصارِ كَمْ وَسِعَتْ 
مَدى المَدى لَهَباً، يَشْكُوْ لَهُ لَهَبُ!؟
وَما تَراءَيْنَ إلّا خِلْتُني وَتَرَ 
الصِّبا يُغَرِّدُ لاسْتِرْضائِهِ القَصَبُ
فَوْقَ الأمُوْمَةِ تَرْتادينَ مُرْضِعَةً 
تَلْكَ القُرُونَ، وَإنْ أخْلَفْتِها تَصِبُ
راحَتْ مُبَدَّدَةً، عادَتْ مُسَوَّمَةً 
وَهَكَذا المَوْتُ يَنْآى حِينَ يَقْتَرِبُ
في عالَمٍ مُمْعِنٍ وَثْباً وَتَجْرِبَةً 
لا يَنْبَغي لِصِغارِ الحُلْمِ أنْ يَثِبُوا
إذا اسْتَطالَتْ مِنَ الأدْغالِ، بُرْعُمَةٌ 
تَجْتاحُها حادِثاتٌ ما لَها عَقِبُ
وَإنْ أتَاحَتْ لَها الأقْدارُ سانِحَةً 
تَسَلَّقَ الدّهْرُ عاليْ الغُصْنِ يَرْتَضِبُ
مَنْ يَصْنَعِ اللَّحَظاتِ الخُضْرَ مُثْقَلَةً 
بِما يَشاءُ مِنَ البُشْرى وَيَنْتَخِبُ
أمْسى يَجُوْلُ عَلى الأيّامِ يُشْهِدُها 
على اسْمِكِ الفَرْدِ كَيْفَ المَجْدَ يَنْتَصِبُ
يا ذِكْرَياتُ اكْتُبي، واسْتَلْهِمي، وَأعِيْدي، 
فَالحِكاياتُ تَحْيا حينَ تُكْتَتَبُ
وَيا سُؤاليْ اسْتَقِمْ، وَالْهَجْ بِجارِحَةٍ 
دانَ الأباةُ لها، حِيْنَ الوَرى نُكِبُوا
لا بُدَّ مِنْ قَلَمٍ ضَجَّ المِدادُ بِهِ 
فَسالَ مِنْ غَضَبٍ، يُمْلي لَهُ الغَضَبُ
طَوى القَراطيْسَ في مَشْبُوبِ جُذْوَتِها 
حَتى إذا رَمَدَتْ ضاءتْ بِها الكُتُبُ
دارَتْ وَما وَهَنَتْ، وَالأرْضُ تَجْذُبُها
قَسْراً، وَفي الدَّوَرانِ الدَّهْرُ يَنْجَذِبُ
أيَنَ المسافاتُ مِنْ صَخْرٍ، وَمِنْ بَشَرٍ 
تَقَلَّبَ الكَوْنُ فيها حِينَ تَنْقَلِبُ؟
أيْنَ اليَقينُ؟ وَللأسْماءِ أسْئِلَةٌ 
بِبابِها يَتَساوى الصِّدْقُ وَالكَذِبُ
أما الوُجُوْدُ بِلا وَصْفٍ، ولا عَلَمٍ 
هُوَ الفَراغُ، وَإنْ تَلْقاهُ يَضْطَرِبُ؟
سِرْنا فسارَتْ بِلا خَطْوٍ مَعالِمُنا 
تُحَدِّثُ الدَّهْرَ عَنّا حَيْثُما يَجِبُ
وَإنْ ضَرَبْنا بِبَطْنِ الأرْضِ راحِلَةً 
تُحَدِّقُ الأرْضُ فينا حِيْثُ نَغْتَرِبُ
بَلى تُعاتِبُنا، والأرْضُ عاشِقَةٌ 
راحَتْ كَوالِدَةٍ تَعْفُو، وَتَحْتَسِبُ
فالأرْضُ تُشْبِهُنا خَلْقاً، وَنُشْبِهُها
أصالَةً، وَإلَيْها تُرْفَعُ الهُدُبُ
أنا بِلادي، وَما أنْفَكُّ أحْمِلُها 
هَوىً، وَتَحْمِلُني إنْ هَدَّني التَّعَبُ
الجُرْحُ عاصِمَتي والجُوْعُ قافِلَتي 
وَرَجْعُها لُغَتي، واللُّكْنَةُ العَصَبُ
أسْماؤنا القافُ، مِنْ بَدْءٍ وَمُخْتَتَمٍ 
تَنْقَدُّ مِنْ جَبَلٍ آلاؤهُ عَجَبُ
وَالدّالُ داليَةُ الأزْمانِ، نَقْطُفُها 
عُمْراً، وَنَعْصُرُها وَعْداً فَتَنْسَكِبُ
وَتَعْزِفُ السِّيْنُ لَحْنَ العِشْقِ مُثْقَلَةً 
بالعائِدينَ، إذا سارُوا، وَإنْ رَكِبُوا!
أَما هِيَ القُدْسُ في كُلِّ اللُّغاتِ، هِيَ 
القُدْسُ الَّتي يَتَناهى عِنْدَها النَّسَبُ!؟
وَفي الوُجُوهِ، هيَ الشَّمْسُ الَّتي احْتَرَقَتْ 
وَفي الجَبينِ، هيَ الإسْلامُ، وَالعَرَبُ..!
يا قُدْسُ يا جَسَدَ الوَقْتِ ارْتَمى نَزِقاً 
كالعِشْقِ، فالْتَأمَتْ مِنْ عِشْقِهِ النُّدُبُ
إلَيْكِ تَجْتَمِعُ الرّاياتُ مِنْ أُمَمٍ 
وَفِيْكِ تَنْقَسِمُ الرّاياتُ وَالخُطَبُ
يا مَقْدِسيُّ اعْتَرِفْ بالقُدْسِ عاصِمَةً 
لِلْحَقِّ، وَاشْهَدْ، وَأشْهِدْ أنَّكَ السَّبَبُ
رياض إبراهيم عبيد