انكفاء الجدل عن معاني المعطيات المسربة وانحساره بالهوامش هو مكسب امريكي غير معلن، انه من النوع الفسيوبوليتيكي والذي له مؤثراته الجيوبوليتيكية، فالاستثمار الامريكي المعاكس في ضرورة درء مخاطر التحدي الذي يسببه اي نشاط متمرد يصعب السيطرة عليه من دون حلف دولي ينخرط فيه كل المتخوفين من اشاعة اسلوب تسريب المعلومات وتداولها، يتزايد تدريجيا باجراءات امريكية داخلية وخارجية، امريكا تدرك تماما انها غير قادرة على تكرار حالة ما بعد 11 سبتمبر عالميا، حيث نجحت حينها في جر كل المتنفذين في العالم لمنحها تفويضا لما تتخذه من ردود افعال، امريكا تحاول تكرار فلسفة اما معنا او ضدنا وهذه المرة باسلوب ناعم، لا سيما وان المسرب يعني الجميع تقريبا.

الامر الان مختلف تماما، انه بحد ذاته فضيحة بكل المقاييس، بمعزل عن فضائح الوثائق المسربة والتي تسقط ورقة التوت عن الوجه القبيح والتأمري للسياسة الامريكية، فمحاولة اسكات ويكيليكس وغيره من المراصد الكاشفة هو فضيحة اخلاقية ودبلوماسية وقيمية وسياسية، فالامر بات يتعلق بمباديء الشفافية وحرية التعبير، وحقوق الانسان، واشاعة المعلومات في عصر يتبجح بكونه عصر للمعلوماتية، وكل هذه الحقائق تجرد امريكا من اسلحتها التقليدية، فهي لا تستطيع اقناع العالم بارهابية ويكيليكس، ولا بأمتلاكه لاسلحة الدمار الشامل، ولا بصلات خفية له بالقاعدة، ولا بتناقضه مع قيم العصر، ولا أتهامه بالعداء للسامية، ولا بكونه مثيرا للحروب والنزاعات، ولا بكونه مؤسسة ديكتاتورية لا قانونية، امريكا تعمل على اقناع العالم بان النيل من سياستها هو نيل من سياسة جميع الشركاء، وهو خطر لا يؤثر عليها وحدها!

موقف الرئيس البرازيلي كان له معنى عميق عندما ادان اعتقال جوليان اسانغي ونفى عنه التهم الامريكية، محملا من كتب الوثائق مسؤولية التداعيات الحاصلة، وبدرجة اقل كان موقف الرئيس الروسي الذي اعتبر اعتقال جوليان عمل منافي للديمقراطية، ومن الجانب الاخر نسمع ان هناك مسؤولا كنديا يطالب بتصفية جسدية لجوليان، ونسمع باصوات في الكونغرس الامريكي تطالب بسجن جوليان ووضعه في غونتانامو!

سيل الوثائق الامريكية المسربة ما زال يتدفق، بقوة، وبثقة، وبمتابعة فضولية قلقة من قبل اعداء واصدقاء امريكا على حد سواء، ناهيك عن اصحاب الشأن نفسه، اعداء امريكا يبحثون فيها عن ادلة دامغة للادانة، وعن ادلة تجريم لا مخارج لها، قد لا يجدوها لان الوثائق المسربة لم تأتي بشيء غير متداول او متوقع، انهم يعولون على إثارة فضيحة من العيار الثقيل، فضيحة ليس فيها لبس، وعن حيثيات جديدة بشهادة موثقة تمسك بتلابيب السياسة الاجرامية لامريكا تجاه العالم، وكما يقول فقهاء القانون: اعتراف صريح وان كان غير مقصود، لا يفقد خاصيته بكونه سيد الادلة، انهم ينتظرون اسرارا تكشف ملابسات كارثة 11 سبتمبر مثلا، او اسرارعن الدوافع الحقيقية للحرب على افغانستان والعراق، اسرار عن خفايا العلاقات الامريكية "الاسرائيلية"، واسرار عن التأمر الناعم على الند الصيني، او اسرارا عن السلاح النووي "الاسرائيلي"، او وثائق تخص الدوافع الامريكية لعقد صفقة السلاح الكبيرة بثمنها ـ 60 مليار دولار ـ والصغيرة بمردودها النوعي مع السعودية، اسرار عن السياسة النقدية الامريكية وتحايلها التاريخي على العالم اجمع، من خلال طبع ترليونات من الدولارات غير المغطاة بقيم حقيقية وانما مغطاة بكفالة النفط المسعر والمباع به.

ما تفعله بعض الصحف الكبرى في العالم من اعادة نشر بعضا من وثائق ويكيليكس وبشكل انتقائي يشير الى ان لامريكا و(اسرائيل) دور ملحوظ في محاولة ابراز جوانب معينة على حساب اخرى من الوثائق التي نشرها ويكيليكس، بنفس الوقت الذي تعمل فيه على تنشيف الويكيليكس ماليا والكترونيا ووثائقيا، فالتأكيد على نشر ما نقل عن الملك عبد الله بن عبد العزيز بحق ايران مثلا وتحريضه لامريكا عليها بقوله انها راس الافعى الذي يستحق القطع، يخدم امريكا اكثر مما يضرها، ونفس الشيء فيما يخص اقوال حسني مبارك وملك الاردن والقذافي وغيرهم، وهذه (اسرائيل) تعلن عن عدم تضررها مما نشر، وهذا غيتس وزير الدفاع الامريكي يقول: تسريبات ويكيليكس محرجة ولكن تأثيراتها محدودة، كلنتون باسترخاء تقول: ان التسريبات تعد خرقا للقوانين الامريكية وهي جريمة تجسس سنعمل على تعقب القائمين عليها، لكن هؤلاء جميعا يتناسون حقيقة ان الوثائق الامريكية المسربة هي بمثابة شهادة شاهد من اهلها على صحة التهم التي توجهها اغلب شعوب العالم لامريكا، وهي بهذا المعنى سلاح جديد لمواجهة سياسة الاستبداد والتضليل الامريكية!

اصدقاء امريكا يقللون من شأن الموضوع برمته، وبعضهم يعتبره دليل عافية وقوة تعزز حالة السيادة للنموذج الامريكي القادر دائما على تطهير ذاته بذاته ووفق آلياته هو، حتى وان انتقد هذا البعض الممارسات الموثقة، فهو في حقيقة الامر يعتبرها اخطاء عابرة وليست ممنهجة او تأمرية، واحيانا يفلسف هذا البعض الامر كله على طريقة فرانسيس فوكوياما في كتابه "امريكا ما بعد المحافظين الجدد" فالامريكان يعملون ويجربون ويبادرون ويبتكرون من اجل ذواتهم التي تحتوي الذات العالمية نحو مستقبل خلاق ولانهم كذلك فهم معرضون للخطأ وعلى العالم تحمل اخطائهم!

اعداء امريكا هم اعداء لسياستها الاجرامية على كافة الصعد، اعداء للعنصرية والمركزية ومحاولة جعل المصالح الامريكية فوق مصالح الجميع، اعداء لسياسة ابادة الشعوب وجرائم الحروب، انهم انصار لحقوق الانسان اينما كان، انصار لمعيار واحد في التعامل بين البشر والدول، فقطع راس الافعى، هو قطع الطريق على السياسة الامريكية، وهو هدف سامي لاتقاء شر سمومها القاتلة، وما فعلته ويكيليكس، خدمة مشكورة بهذا الاتجاه.

بقلم:جمال محمد تقي-فلسطين