عندما دخل سعيد الذي تخرج حديثا من الجامعة إلى الشركة الكبيرة التي يطمح بالحصول على وظيفة فيها كان دقات قلبه تتسارع فهذه الشركة تعد من أكبر شركات البلد وصاحبها من أغنى الأغنياء والكل يتهافت للحصول على عمل فيها وبينهم أبناء الكبار وأصحاب الواسطة ، فكيف له أن ينافس كل هؤلاء وهو الشاب البسيط وإبن الموظف البسيط الذي توفي ولم يترك له من مال الدنيا شيئا ، ولكنه تذكر وصية المرحوم والده الذي أوصاه بالتوكل على الله في كل أمر وأن يرضى بقضاء الله عز وجل مهما كان وأن لا يحزن على أي شيء لم يحصل عليه فربما كان الخير في ذلك دون أن يدري

دخل سعيد على مدير شؤون الموظفين  وقدم أوراقه  وطلب منه الرجل أن ينتظر اتصالا كي يتم إعلامه بالنتيجة خرج سعيد وهو شبه متيقن من أن النتيجة ستكون سلبية هذا إذا اتصل به أحد أصلا ولم يرموا طلبه في اقرب سلة مهملات

مضت عدة أيام وفجأة جاء الإتصال الموعود وطلب منه المتحدث أن يأتي الشركة في مساء نفس اليوم لإجراء مقابلة فرح سعيد ولبس أحسن ما وجده من ثيابه المتواضعة وذهب حسب الموعد وأبلغ موظف الإستعلامات بإسمه فقال له الأخير وهو ينهض احتراما :

– أهلا وسهلا يا سيد سعيد ، شرفتنا يا سيد سعيد ، تفضل أوصلك إلى غرفة رئيس مجلس الادارة

ضحك سعيد وقال للرجل :

– يا صديقي أنت قد خلطت بيني وبين شخص آخر ، أنا مجرد شخص بسيط طالب وظيفة !!

سأله الرجل :  

– ألست الأستاذ سعيد وحيد فريد ؟ وعندك موعد الساعة الخامسة ؟

أجاب سعيد :  نعم أنا هو

أجاب الرجل مبتسما :  

– إذا أنا لست مخطئاً يا سيدي وموعدك مع السيد رئيس مجلس الادارة الذي أوصانا باستقبالك بحفاوة تليق بمقامك

ذهب سعيد مع الموظف وهو مشدوه فدخل إلى مكتب رئيس مجلس الادارة الفخم وما أن عرف موظف الاستعلامات عنه حتى نهض جميع من في المكتب إحتراما له ، لم يصدق سعيد ما يرى ولم يفهم ما الذي يحدث وكان متيقنا أن هناك لبسا قد حصل وسرعان ما سيدرك الجميع هذا اللبس وسيطرد شر طردة فلو كان إبن وزير لما استقبل بهذه الحفاوة ..

إنتظر سعيد عدة دقائق ثم طلبت منه السكرتيرة الدخول فدخل إلى المكتب الفخم ورأى رئيس مجلس الادارة جالسا وما أن رآه الأخير حتى نهض عن كرسيه ، وجاء إلى سعيد وأخذه بالأحضان وهو يقول :

– أهلا بك ، أهلا بالعزيز الغالي ، أهلا بالحبيب

تلعثم سعيد وقال :

– أشكرك يا سيدي على هذه الحفاوة ولكن أغلب الظن أنك تحسبني شخصا آخر فانا لم أتشرف بلقائك من قبل ولم أرك سوى في الجرائد والمجلات

إبتسم الرجل وذهب إلى درج مكتبه وأخرج صورة قديمة صغيرة وأراها لسعيد الذي بهت لرؤيتها كأنه قد ضربته الصاعقة فقال وهو يكاد يصرخ :

  – هذه صورة المرحوم أبي من أين لك بها هل كنت تعرفه ؟

  قال الرجل :

– المرحوم ؟ هل مات هذا الرجل الطيب ؟ رحمه الله وغفر له وجعل مثواه الجنة ..

قال سعيد :

– ولكني لا أفهم فمن أين لأحد كبار أثرياء البلد أن يعرف أبي وهو رجل متواضع جدا عاش مستورا حتى آخر يوم في حياته ؟

  قال الرجل :

  – دعني أخبرك بالحكاية منذ البداية ، فمنذ سنوات عديدة كنت مازلت شابا في مقتبل العمر ولكني كنت مثلك دون واسطة ودون نقود ، وفي أحد الأيام كنت أريد أن أتقدم بطلب وظيفة مثلما تفعل أنت الآن ولكن المشكلة أني لم أمتلك أي نقود كي اذهب بها إلى المدينة التي تعرض الوظيفة فجلست حائرا مهموما في محطة الباصات ولا ادري من أين أحصل على ثمن التذكرة ؟

  وكان يجلس إلى جانبي شاب آخر سألني عن سبب حزني فأخبرته بما يحدث معي ، فمد يده في جيبه وأخرج محفظته وأخرج منها كل ما فيها من نقود وأعطاني إياها ، أستغربت وأخبرته اني لا أستطيع قبولها ولكن بعد إصراره الشديد أخذتها وسألته كيف أردها له ؟ فأخبرني أنه لا يريدها ولكن إذا من الله علي فيجب أن أجعلها صدقة جارية بأن أساعد كل يوم شخصا محتاجا دون أعرف من هو ، فقلت له أخبرني أسمك على الأقل فقال لي أن اسمه وحيد فريد ويلقبونه أصدقائه بأبي سعيد وعندما تركته وذهبت وجدت أنه نسي صورة له بين النقود فاحتفظت بها ذكرى عن هذا الرجل الكريم ، ومضيت إلى المدينة وتوظفت وترقيت وأسست شركتي الخاصة وازدهرت إعمالي وبحثت عن والدك في كل مكان فلم أجده وأقسمت أن أحفظ أمانته ما حييت ومن يومها وأنا أساعد كل يوم شخصا لا أعرفه فتارة أجلس في محطات الباصات وتارة في المساجد وتارة في المستشفيات ويشهد الله انه لم يمض يوم واحد إلا وقد ساعدت محتاجا وكلما شكرني قلت له عليك أن تشكر أبو سعيد فلولاه لما كنت قادرا على مساعدتك فاعلم يا ولدي إن المرحوم أبوك شريك لي في كل خير عملته وكل صدقة أعطيتها ..

  دمعت عين سعيد وقال :

  – رحم الله والدي كان دوما يحضني على مساعدة الآخرين ويقول لي يا ولدي ساعد خلق الله فيجزيك خالقهم عنك خير جزاء في حياتك أو مماتك أو أولادك من بعدك ولا تستخف بأي عمل خير مهما صغر فقد يغير حياة إنسان دون أن تدري

  نهض الثري وعيناه تدمع هو الآخر وقال :

  – والله اني لم أفحص طلب توظيف لأي أحد بنفسي منذ عشرين سنة ولدي أشخاص معنيين بذلك إلا أن هاجسا من الله دفعني أن أطلب من المدير كل ملفات التوظيف الجديدة وأنا نفسي لا ادري لماذا !!

  وأخذت أتفحصها واحدا واحدا وما أن وقعت عيني على صورتك حتى عرفتك فورا فأنت صورة طبق الأصل عن المرحوم والدك والحمد لله أني سأستطيع أن أرد جميله وفضله ..

  وأعلم أنك قد تعينت عندي وفي مكتبي الخاص وسأحرص على أن أجعل منك إنسانا ناجحا يفخر بك المرحوم والدك

أرسلت بواسطة:ابتسام أبو اللبن