في الذكرى الثانية لمحرقة غزة، في جعبتنا أسئلة استنكارية غير مريحة لمؤسسات الحكم الرسمية:
ما نوع هذه المجتمعات المسماة عربية؟
ما نوع هذا البشر المسمى عربي؟
ما نوع قلوبهم ونفوسهم وكراماتهم؟
وفي أي قرن نحن؟
وما جنسية هذه الصحف والإذاعات والفضائيات التي تزعم أنها عربية؟
وما الذي حدث لهذه الأمة؟
ماذا حدث للثوار والمفكرين والمؤدلجين والمنظّرين؟
ولماذا ابتلعوا ألسنتهم..؟
وهل ابتلعوها أم سقطت كما تسقط كل الأشياء المعطلة؟
ولماذا باتت أمريكا تفكّر عنّا، وتتحاور بالنيابة عن حكوماتنا، وتشتغل بدلاً من مؤسساتنا، وتحتل مدننا وبلداننا وبيوتنا وعقولنا، وتسبي حرائرنا، وتقرّع قياداتنا، وتفرض الأتاوات على شعوبنا، وتصادر نفطنا وثقافتنا..؟!

هل ماتت هذه الأمة أم انسطلت بعد أن شربت حبوب البلادة والخنوع؟
ماذا حدث؟

ومن نحن؟
إن هناك ألف سؤال استنكاري يمكن أن تشكل مدخلاً، مجرد مدخل..

نحن "إرهابيون" إذا لم نوجه التحية للقيصر فيما نحن نُساق إلى الذبح..
ونحن "مخربون" إذا دافعنا عن كرامتنا، أوعن بعض كرامتنا وبعض أرضنا..

و"أشرار" وأصحاب لغة خشبية إذا تباهينا بانتصاراتنا في اليرموك وحطين وعين جالوت..
وممنوع على قصاصينا وشعرائنا وتشكيليينا أن يمسكوا القلم أو الإزميل أو الريشة لتمجيد تلك الانتصارات،

إن النملة تدافع عن ثقب الأرض الذي تعيش فيه..
والنحلة تقاتل حتى الموت لحماية قفيرها..

والعصفور الوديع الرقيق يستميت في حماية عشه..
وذبابة (التسي التسي) حاربت الغزاة البيض في أقطار أفريقيا بضراوة.. فهل بات شأننا أقل من النملة والذبابة والعصفور؟!

قبل نيف وستين سنة قضموا بعض فلسطين

وقبل ثلاثة وأربعين عاماً نهشوا ما تبقى من أرض فلسطين

وقبل سنتين ارتكبوا مذبحة في قطاع غزة هي الأفظع والأكبر..

وضعوا أيديهم على أرض الرافدين، من البصرة إلى الموصل، وشردوا أكثر من خمسة ملايين عراقي، وأطلقوا قطعان الحبشة على الصومال، وصادروا النيل، وتوغلوا تحت مسام جلد السودان الأعلى والأوسط في الجنوب والغرب..

وانضغط النابض العربي تحت القدم الصهيو- أمريكية إلى أقصى حد..

وكل النوابض التي تنضغط كثيراً تنفلت في الآخر، وكل الأنوف التي يتم عصرها تقذف الدم..
فما بال نابضنا وأنوفنا لا تفعل؟!

ولماذا لم نُقلع عن تعاطي حبوب منع المقاومة، وحبوب منع حمل السلاح..؟

وهل سنظل نياماً في بلهنية حتى يداهمنا السيل، ونرى القيادات العربية وهي تُشحن في أقفاص لتعرض في الحديقة الخلفية للبيت الأبيض..

أمس الثلاثاء – في 28 كانون الأول – ديسمبر – خرج أطفال غزة في مسيرة مؤثرة وهم يحملون صور أطفال سبقوهم إلى الشهادة..

أرادوا تذكيرنا بالمصير الذي قد يلاقونه إذا واصل هذا الوطن العربي والإسلامي الصمت…

إن كل صورة لوحوا بها في وجوهنا تروي حكاية محنة، لا تقل عن محنة ذلك الرضيع الذي وجد نفسه تحت ركام البيت الذي تقوض، ولجأ إلى صدر أمه القتيلة، ودر صدرها الحليب، وحين وصل إليه المسعفون بعد يومين كان كل ما فعله هو النظر إليهم بعينين مسكونتين بالدهشة..

الرضيع صار عمره ثلاث سنوات، وبالكاد يستطيع تأليف جملة، ترى ماذا سيقول لنا حين يُحسن النطق؟!

إذا كانت الرسالة التي تلاها الطفل (أحمد أبو واكد) والموجهة للعالم، قد اكتفت بالقول: (كونوا معنا في وجه العدوان الذي يستهدفنا ويستهدف كل شيء جميل في حياتنا..)، فإنني أخشى أن ذلك الرضيع سيبصق في وجوهنا، لأننا سمحنا بكل هذا التمادي الذي نعاينه..

هل أتاكم حديث معركة (سهل الدم)؟

حسناً، سنرويها لكم باختصار..

في العام 1118 أكمل الصليبيون استعدادهم لاحتلال حلب،وكان الجو يناسبهم، فخليفة بغداد يتخابر مع البيزنطيين، ورضوان السلجوقي يلهو في قصره، والقرى والقلاع من حول حلب تتساقط كأوراق الخريف، وليس من ينجدها إلا أهلها.. تماماً كما هو حالنا في هذه الأيام والأعوام..

واجتمع الحلبيون في المسجد الجامع وصحنه، وقام بينهم خطيباً القاضي (أبو الفضل بن الخشاب) ليقول رأيه ورأي الحلبيين بصوته الجَهْوَريِّ في سياسة رضوان الاسترضائية الخضوعية، ورضوان كان يتوارى في قلعة حلب بين حريمه وحراسه ومضمار خيله.

وتداركت العناية الإلهية القوم، فمات رضوان، وجلب الحلبيون (إيلغازي) والي ماردين، وشرطهم الوحيد أن يقاوم..

وحسب ابن القلانسي وسبط ابن الجوزي، احتشد أكثر من أربعين ألف مقاتل لمواجهة القوات الصليبية التي كان يقودها (روجر) أو (سرجال) – كما عُرف في بعض كتب التاريخ –الذي كان يتحصن في منطقة جبال عفرين.. ووقعت المواجهة في (سهل سرمدا)، في التاسع والعشرين من حزيران 1119، وكرّ في مقدمة المسلمين القاضي ابن الخشاب والسهام تتطاير حوله وكأنها سرب من الجراد، وما هي إلا ساعات حتى تمزق الصليبيون –وعددهم ضعف عدد المسلمين- بين قتيل وجريح وأسير، وبين القتلى أميرهم (روجيه دوسالرن) وقد انفلق وجهه عند الأنف..

لقد دعي (سهل سرمدا) منذ ذلك الحين بـ (سهل الدم) لكثرة الدماء التي سالت فيه.. ومن عجيب المصادفات أن يقوم (بغدوين) –بودوان- حاكم القدس الصليبي باجتياح مصر في نفس التاريخ بمئتين وستة عشر فارساً وأربعمئة راجل فقط لا غير، وبلغ بهم ضفاف النيل وسبح فيه –كما أكد ابن الأثير- .. لأنه لم يجد من يتصدى له أو يمانعه..

لقد أهدى إيلغازي سيوف ودروع ورماح قادة الصليبين القتلى للأمراء في المدن والأقاليم العربية لعل الشجاعة تعود إلى أبدانهم المتخاذلة.
وقد أهدتنا المقاومة الغزاوية نصراً مبيناً، كتبت صفحاته بالدم في (معركة الفرقان) التي دامت أكثر من ثلاثة أسابيع صموداً وانتصاراً يشبه الانتصار في معركة (سهل الدم)، وأهدوا مؤسسات الحكم العربية صفحات مشرقة تبعث الحميّة.. فما بالنا نسمح لـ (بودوان) بالسباحة في نهر دجلة؟!

استيقظوا يرحمكم الله..

استيقظوا قبل أن تأخذكم الصيحة..
بقلم:محمد أبو عزة