عادى بونابرت اليهود، لكنه كان أول مسئول كبير غربى ، فى العصر الحديث، نادى بوطن قومى لليهود فى فلسطين .

 لقد مرت الفكرة الصهيونية بمرحلتين ، أولهما ما قبل عام 1897، حيث كانت فى طور التكوين الفكرى . ومرحلة ما بعد عام 1897م ، عندما أخذت الصهيونية شكلها التنظيمى ، لتحقيق توصيات المؤتمر الصهيونى الأول ، المنعقد فى مدينة بال السوسيرية ، صيف عام 1897 . ومن هنا وجد بعض بناة الإمبراطوريات فى الغرب الاستعانة باليهود ، بإثارة الشعور الدينى لدى اليهود ، والرغبة فى " العودة الى فلسطين " ، لتدعيم مصالح الغرب فى المنطقة العربية . (1)

 نوقشت " المسألة اليهودية " ، إبان الثورة الفرنسية ، هل اليهود فرنسيون أم أنهم أمه داخــل أمه ؟ وعزف أعداء اليهود على وتر "الخطر اليهودى " ، وأن اليهود جسم غريب منبوذ ، يجب التخلص منه . وطرح آخرون اندماج اليهود ، وأعطائهم حقوقهم ، بشرط التخلى عن خصوصيتهم اللغوية ، والثقافية ، والاثنية ،  فى الحياة العامة . ليصبح اليهودى مواطنا فى الشارع ، يهوديا فى منزلة ، ومنعت الجامعة اليهودية من ممارسة بعض شعائرها ، فى عام 1793-1794، باعتبار هذه الشعائر لا تتفق مع العقل . (2)

قادة الثورة الفرنسية يكرمون اليهود 

 قامت الثورة البرجوازية الفرنسية ، عام  1792م ، ضد تحالف الكنيسة مع الإقطاع ، ومن شعاراتها " اشنقوا آخر  إقطاعي بأمعاء آخر قسيس " ،  نتيجة ظلم الكنيسة الكاثوليكية ، تعاونا مه الاقطاع ، تحالفت القوى التى تعرضت لهذا الظلم ، من أجل القضاء عليه ، ومن أبرز هذه القوى اليهود .
 مول الرأسماليين  اليهود الثورة الفرنسية، وساعدوا على نجاحها ، من خلال محافلــهم الماسـونية ، التى استطاعت أن تجعل شعاراتها هى نفسها شعارات الثورة الفرنسية ؛ " الأخاء، والحرية ، والمساواة " ، لمقاومة الحصار العنصرى الذى فرضته الكنيسة الكاثوليكية على اليهود ، وشعار "دعـــة يعمل ، دعة يمر " ، لمقاومة منع تنقل اليهود ، ووضعهم فى مجتمعات مغلقة (الغيتو ) * .

* الغيتو : مفرد "غتوات " ، وهى أحياء اليهود المسورة ، والمغلقى ، وقد عمت أقطار أوروبا كلها ، قبل أن تنهار تحت ضربات الثورة البورجوازية ، هنا وهناك .
ونتيجة لذلك أعطى قادة الثورة الفرنسية لليهود مكانة خاصة ، ومحوا عنهـــم آثار الاضطـــــهاد الكاثوليكى (3)  .
 بدأت الدبلوماسية الفرنسية ، منذ عام 1795 ، بإعادة الجسور مع الشرق ، فواصلت الجمعية التأسيسة  الجهود السابقة للنظام الملكى ، بتزويد فرنسا بمترجمين أكفاء ، عن طريق تأسيس مدرسة اللغات الشرقية الحية ، وفى العام نفسه جاء اعتراف السلطان  العثمانى بالجمهورية الفرنسية ، وقدم مشروعا للتحالف من قبل القائم بالأعمال ، فيرنينال ، فى عام 1896، وخلفه ، اوبير – دوبيس ،  مصحوبا ببعثته العسكرية والتقنية ، وهكذا حظيت  فرنسا بالصداقة العثمانية ، وأصبحت الظروف مواتيــــــة لبونابرت ، وحمـــــــلته (4) . ولكن من هو  بونابرت ؟ !
  
 ولد بونابرت ، فى 15 أغسطس/اب 1769 ، من أسرة تنحدر من أصل إيطالي ، فى مدينة اجاكسيو ، عاصمة مدينة كورسكا ، التابعة لجمهورية جنوى ، التى استولت عليها فرنسا ، 1768 ، أى قبل ولادة بونابرت بسنة ، فهو ايطالى الأصل ، فرنسى المولد .

  تلقى بونابرت دروسه الأولى فى مدرسة أجاكسيو ، ثم التحق بمدرسة بريين الحربية بفرنسا ، ثم مدرسة باريس الحربية ، عام 1784، وانتظم فى سلك المدفعية ، والتحق بالجيش بعد تخرجه . وابان الثورة الفرنسية انضم إليها ، وبعد أن اعلنت فرنسا الحرب على النمسا ، ثم على إنجلترا ، وهولندا ، وأسبانيا ، أحاطها الأعداء من كل جانب ، واحتل الإنجليز  طولون ، ميناء فرنسا البحرى ، على البحر الأبيض المتوسط ، عام 1793. وقد ظهر بونابرت نبوغه الحربى فى حصار طولون ، واسترجاعها ، وعينت الحكومة الفرنسية  بونابرت قائدا للجيش الفرنسى فى حرب إيطاليا ، 1796. (5)
 عاد بونابرت منتصرا من إيطاليا ، فى ديسمبر / كانون الأول 1797، وكانت حكومته قد عينته لقيادة الجيش المجمع على الساحل الإنجليزي ، تمهيدا لغزو الجزر البريطانية ، وبعد جولة تفتيشية سريعة فى مناطق تنفيذ الغزو ،  فى فبراير/ شباط 1798 ، كتب بونابرت تقريرا لحكومته عن نقص الموارد العسكرية والمالية ، نقصا شديدا ، وشدد بأن على فرنسا الاختيار بين ثلاثة ، عقد صلح مع انجلترا ، أو غزو هونوفا ، بدلا من الجزر البريطانية ، أو الاستيلاء على مصر ، فتقطع بذلك شريان الحياة بينها وبين الهند ، واستقر رأى حكومة باريس على الخيار الأخير   (6)  .
 قدر بونابرت موقع مصر الفريد ، فهو معبر مطل على البحر الأبيض ، النفاذ من جبل طارق ، الى الأطلنطي فالولايات المتحدة، كما تطل مصر على البحر الأحمر ، الذى يمكن وصله بالبحر الأبيض ، الذى يتدفق بمياهه ، جنوبا ، حتى يدخل الى بحر العرب ، عند عدن ، ويمتد الى المحيط  الهندى ، ثم إلى المحيط الهادى . وأيضا ، هو بلد على رأس أفريقيا وكتف آسيا  . أرضه تصلح بطبيعتها السهلة ، ومواردها الزراعية ، لأن تكون قاعدة لجيش كبير ، بأقل ، ويسكن ، ويستعد فى أمان .  فالاستيلاء عليها مقدمة ضرورية للتوسع الإمبراطوري ، الى الهند، ويتصدى لبريطانيا ، ويتحدى سيطرتها على التجارة ، والبحار  (7) . فاحتلال مصر كان يؤمن لفرنسا إمكانية تهديد طريق الهند عن طريق البحر الأحمر ، والخليج  العربى ، ويتيح لها أن تستعيد المواقع التجارية الراسخة فى بلاد المشرق ، وتعوض عن فقدان جزر  الأ نتيل ، التى احتلتها بريطانيا  (8) .

 أيقن بونابرت أهمية سوريا ، أيضا ، ورأى بأن اتصالها غير قابل للانفصال عن مصر ، فهما يشكلان زاوية  قائمة ، ضلعها الجنوبى مصر ، الذى يتأثر به بالعرض الساحل الشمالى لأفريقيا ، وبالطول الى الجنوب ، حتى منابع النيل ، وسوريا  ضلعها الجنوبى ، على حدود بلاد العراق ، وشبه الجزيرة العربية ، والخليج ، والطريق الى بلاد فارس ، والهند .  
 وعى بونابرت الدرس ممن سبقوه  من الفاتحين ، لأهمية مصر وسوريا ، فضلا عن التكامل بينهما الذى لو تحقق ، كما حدث من قبل خلال حروب الفرنجة ، قادر  على صنع قوة ذاتية ، تشجع على الانفلات من قبضته ، وتواجهة بما لا يتحسب له ، حيث أن كلا ضلعى الزاوية ، فى بحث مستمر عن الضلع الآخر ، بصرف النظر عن متغيرات الظروف ، والعصور .  هكذا تبلورت الرؤية الاستراتيجـية لبونابرت ، فلكى يحقق أحلامه كان علية أن يسيطر على الضلع الجنوبى لزاوية البحر الأبيض الشرقية ، مصر ، فأنزل جيوشه إليها ، ويؤمن سوريا ، الضلع الثانى ، وهو يزحف عليها . ولعدم التقاء الضلعين ، عربيا وإسلاميا ، فكان لابد أن يبحث عن مركز الزاوية ، وهى فلسطين ، ويزرع فيه جسما آخر ، ليس عربيا ، ولا إسلاميا ، فتفتق دهن بونابرت الى إنشاء " وطن قومى " لليهود ، يكون ضمانا إضافيا ، وجاءت ورقتة اليهودية تصورا للمستقبل ، ورؤية قابلة للتحقيق ، حتى بعد أن أصبح إمبراطورا لفرنسا ، كانت مصر  ، " وفكرة الوطن اليهودى " العازل ، لاتزال تدور بخلده ، فدعى ، سنة 1807، الى عقد مجمع يهودى فى سانهردين لكل يهود أوروبا ، ممثلين فى رؤساء طوائفهم ، وكبار حاخامتهم ، للم شمل اليهود ، ونص أحد قرارات المجمع على " ضرورة إيقاظ وعى اليهود الى حاجتهم للتدريب العسكرى ، لكى يتمكنوا من أداء واجبهم المقدس ، الذى يحتاج إليه دينهم " (9) .
 يعد بونابرت أول من دعا لإنشاء دولة يهودية فى فلسطين ،  فى العصر الحديث ، وأول غاز غربى للشرق العربى فى العصر الحديث .

 الجدير بالذكر أن بونابرت كان معاديا لليهود ، كما يدل على ذلك سجله فى فرنسا ، كما لايمكن الحديث عن وجود لوبى يهودى ، أو صهيونى فى  فرنسا ، وحين أطلق بونابرت دعوته ، بل كان ذلك نابع من إدراك بونابرت للمصالح الاقتصادية والاستراتيجية للبرجوازية الفرنسية (10) . حيث ورد فى مذكرات بونابرت التى أملاها فى منفاه ، سانت هيلين ، أنه حين عزم على تنفيذ مشروع حملته على مصر كان يقصد إنشاء دولة مشرقية كبيرة ، وينوى ، بعد توطيد مركزه فى مصر غزو الهند وقدر وصوله إليها ، شهر مارس/آذار 1800(11) .
 تعتبر حملة بونابرت على مصر ، التى أسماها "حملة النيل " ، بداية لعملية وراثة الخلافة العثمانية ، والزحف منها الى فلسطين ، والشام نادى بونابرت أنه الصديق الصدوق لخليفة المسلمين العثمانى ، وأنه الحريص على تثبيت سلطانة المهدد من المماليك فى الداخل ، أو الملوك المسيحيين فى الخارج ، ووصل به الأمر  الى حد ادعائه اعتناق الإسلام (12)  .
بونابرت فى مصر 

 فى 19 مايو  / آثار 1798،  أقلعت الحملة الفرنسية من ميناء "طولون" ، واستولى بونابرت على مالطة ، فى 1 يونيو/ حزيران 1798،  ودخل الإسكندرية ، فى 2 يوليو/ تموز 1798 (13) .  ومع أخذ بونابرت بتحذير فولنيى ،  إذا أراد الاستقرار فى مصر ، فان عليه شن ثلاثة حروب ، الأولى ضد إنجلترا ، والثانية ضد الباب العالى ، والثالثة – وهى اصعبهم – ضد المسلمين . الأ أن بونابرت قرر محاولة اجتذاب المسلمين ، بدلا من محاربتهم ، وذلك قبل أن يقلع بونابرت بحملته ، فجهر بونابرت بعقيدته الدينية ، عندما أصدر بيانا ، وقت نزوله من السفينة فى الإسكندرية ، جاء فيه ، بعد البسملة والتوحيد بالله ! ، انه من طرف أمير الجيوش الفرنسية بونابرت ، الذى جاء ليخلص حقهم من الظالمين ، المماليك ، وليس للقضاء على دولتهم ودينهم ، وهو يحترم الدين الإسلامي والنبى (ص) والقرأن الكريم .

 توجة بونابرت الى القاهرة ، بحملته ، التى حرص على إضفاء البعد العلمى والفنى عليها ، فجاء مع الحملة بحوالى 167 مدنيا ، علماء فى الرياضيات ، والفلك ، والعلوم الطبيعية ، وهندسة المناجم ، والهندسة المدنية ، والمعمارية ، والإنشائية ، والجغرافيا ، والرسم والنحت ، فضلا عن فنيين بارود ومتفجرات ، وأدباء ، وسكرتارية ،  ومترجمين ، وشئون صحية ، كما حمل الجيش معه مواد للطباعة بثلاث لغات ، الفرنسية ، والعربية ، واليونانية ، ومهملا كيميائيا ، ومكتبة فيزياء ، ومكتبة تاريخ طبيعى ، ومرصد وتجهيزات كاملة لصناعة المناطيد ، ولقيادتها .

 بوصول بونابرت إلى القاهرة فى24 يوليو/ تموز 1798 ، أصدر بيانا رسميا باللغة العربية ، جاء فيه ." يا أيها المصريون ، أننا حضرنا بقصد إزالة المماليك ، الذين يستعملون الفرنساوية بالذل والاحتقار ، وأخذ مال التجار ،  ومال السلطان . أما المشايخ ، والعلماء ، وأصحاب المرتبات ، والرعية ، فيكونون مطمئنين وفى مساكنهم مرتاحين " (14) .

 يتضح أن رسائل بونابرت الإسلامية هذه حيلة سهلة لخداع المصريين جميعا ، العامة ، والعلماء من مشايخ الأزهر، وتم خداعهم ،  بالفعل ، وصدقوه ، ربما لضيقهم من حكام المماليك ، أو لعجزهم عن حماية ديار الإسلام ، وديارهم . فقد كتبت تلك الرسائل الإسلامية ، وطبعت مع الرسالة الخاصة باليهود ، وطبعت جميعهم قبل أن تقلع الحملة الفرنسية من موانيها ، وحرص بونابرت على عدم إعلانه عن الرسالة الموجهة لليهود ، ألا عند دخوله فلسطين ، لكى لا تؤثر على رسائله للمسلمين (15) 
حملته على فلسطين  

 ظلت فلسطين ، منذ فجر التاريخ ، مطمعا لجميع الفاتحين ، والمستعمرين ، سواء كـانوا  آسيويين ، أوغربيين ، كالاسكندر ر ، وبومبى ، وغودمنرى ، وقلب الأسد ، وبونابرت (16)  .

 تعتبر تلك الحملة بداية تنفيذ استراتيجية بونابرت ، التى جاء  من أجلها ، حيث الوصـول للهنــد ،  ودعم العناصر الثائرة على الحكم البريطانى هناك ، وانزال الهزيمة فى أثمن جوهرة فى إمبراطورية عدوته ، بريطانيا ، وأيضا التوغل فى أملاك الدولة العثمانية ، والسيطرة عليها ، ثــم القسطنطينية ، والبلقان ، والنمسا ، فيهزم الدول المتألبة ضد فرنسا ، حتى يصل الى باريس . 

 ثمة أسباب أخرى ظاهرة ، أعاد بها بونابرت ، حملته على فلسطين ، عندما حاصره الأسطول الإنجليز ، وتحالف العثمانيون مع الإنجليز ، واحتلت جيوش العثمانيون العريش ، بقيادة  أحمد باشا الجزار ، هنا كانت الذريعة الفرنسية ، صد الجزار وجنوده عن الأراضي المصرية .

 جمع بونابرت زعماء البلاد المصريين ، واخبرهم بطريقته اللبقة ، أنه ذاهب ليحارب إبراهيم بك واتباعه فى سوريا ، دون السلطان ، وحذرهم من أعمال الشغب ولوح لهم بعقابه الشـــــــــــــــــديد ، لو حدث ، ومكافأته لهم ، إذا اخلدوا للسكينة ، وأصدر بونابرت منشورا باللغة العربية ، يقضى بالعفو عم المذنبين فى ثورة القاهرة الأولى ، وأمر بإعادة الديوان الخصوصي ، لتسهيل مصالح الشعب (17) .

 توجه بونابرت بحملته إلى فلسطين ، بعد انتصاره على المماليك ، ودخوله القاهرة ، فى 21يوليو/تموز 1798 ، والقضاء على ثورتها ، فى 21 أكتوبر/تشرين الأول 1798 . تألف الجيش الفرنسى المتجه إلى فلسطين ، بقيادة بونابرت ، من أربع فرق : فرقة الجنرال كليبر ، وتضم 1499 مقاتلا ، وفرقة الجنرال بون ، وتضم 2449 مقاتلا ، وفرقة الجنرال لان ، وتضم 2924 مقاتلا ، وفرقة الجنرال رينية ، وتضم 2160 مقاتلا ، يضاف إليهم 800 عنصر من الفرسان ، بقيادة الجنرال مورا ، و320 من سلاح الهندسة ، بقيادة الجنرال كافاريلى ، 1385 من سلاح المدفعية ، بقيادة الجنرال دومارتان ، فضلا عن 400 الإدلاء ، الراجلين ، وراكبى الخيول ، و88 من الهجانة ، وبلـــــغ مجــمــوع رجـــــــــال الحملة 12945  مقاتلا (18) .
 
 ادعى بونابرت ا إهانة الجزار لمبعوثه الذى عرض عليه إقامة علاقات حسنة بين الطرفيين ، وتحسين التجارة بينهما ، فأرسل بونابرت فرقة ،استطلاعية ، فى 30 يناير/كانون الثانى 1799 ، بمهمة استطلاع . وأعدت قافلة من 1500 جمل ، لحمل المؤن من القاهرة ، وأمر فرقة كليبر بمغادرة دمياط إلى قطبة ، وأعد أسطولا من السفن فى الإسكندرية ، لنقل مدفعية الحصار الثقيلة ، التى  استولى عليها الإنجليز ، فيما بعد ، قرب يافا . احتل بونابرت قطية ، لتوفير المياه ، ثم اتجه إلى العريش ، التى تشكل نقطة الحدود بين مصر وبلاد الشام ، التى أقام فيها الجزار ،  حامية من 1500 مقاتل من الممــــــــاليك أو المصريين ، والمغاربة (19)  .

 كان كليبر وفرقته طليعة الجيش الفرنسى ، تسللت كتيبة من فرقته إلى معسكر العريش ، فقتلت خمسمائة من الأهالى  والجنود ، وهم نائمين فى ليلة رمضانية بالسلاح الأبيض ، وآخذو  باقى الأهالى أسرى ، بعد أن استيقظوا من نباح كلاب المعسكر  . ولولا ذلك لذبحوا جميعا . ويصف بونابرت هذا الهجوم بأنه أجمل العمليات الحربية التى يتصورها العقل ! (20) .

 احتل كليبر ورينه العريش عدا قلعة العريش ، وفى 10 فبراير/شباط  1799 ، استقل بونابرت بعض السفن ، وضم إليها 20400 مقاتل ، ودخل العريش ، وأصدر منشورا ، أعلن فيه صداقته للعثمانيين ، وحرصه على بقاء المسلمين ، ومساجدهم ، بعيدة عن الاعتداء ، ويطلب مساعدة السوريين له ، واتبعه بمنشور آخر للمصريين ، أخبرهم بمثول العريش له ، وأنه أغتنم منها أرز ، وبقسماط ، وشعير ، وثلاثمائة راس من الخيل ، والجياد ، والجمال (21) .

 بعد سبعة أيام من حصار العريش ، وجرح وقتل مائتين وثلاثمائة من الفرنسيين ،  التحق 400 من المغاربة الأسرى بجيش بونابرت ، وجرد الباقى من السلاح ، وأرسلوا إلى مصر  . ثم تبدل ترتيب الفرق فيما بعد العريش ، فأصبحت فرقة كليبر فى المقدمة ، يرافقها الفرسان ، بقيادة موار ، لاحتلال خــان يونس ، التى تبعد عن العريش نحو ستين كيلو مترا ، فى 22 فبراير/ شباط ، وصلهم بونابرت ، فى اليوم التالى ، وبقيت فرقة رينية فى العريش  ،لحملة مؤخرة الحملة ، وتسير  على مسافة يوميين منها . والجدير بالذكر أن عددا من الجنود توفوا ، بسبب صعوبات اجتياز الصحراء ، وضل كليبر الطريق ، فوصل بعد بونابرت ،  واستسلمت خان يونس ، بدون قتال (22) . 

 سار   بونابرت إلى غزه ، مفتاح فلسطين الجنوبى ، وكان الحر  مخيفا ، والرياح العاتية تلفح الوجوه ، وقلت المياه ، وتعب الخيل والجنود ، وبدأت روح التمرد والعصيان تبث فى الجنود ، حتى اجتازوا الصحراء ، أو تغير الجو ، وهطلت الأقطار ، فأصيب كثير من الجنود بالأمراض (23) .

 دخل جنود بونابرت إلى غزه ، ففر منها المماليك وجنود الجزار ، بعد مقاومة قليلة ، بعدها أحتل كليبر  بندر غزه ، بدون معارضة له ، واستولى على ما وجدة من ذخائر ، وبارود ، وطعام . وأرسل الفرنسيون فرمانا مكتوبا من غزه  إلى أهل مصر ، لإخبارهم بذلك . وفى الوقت نفسه وجه بونابرت إلى أهالي الشام فرمانا ، عند دخوله غزه ، يبرر  فيه حملته على فلسطين " بقصد طرد المماليك وعسكر الجزار عنكم " . ومنح بونابرت للأهالي الأمان ، وطالبهم بالعودة إلى أعماله ، وحفل فرمان بونابرت هذا بالمفردات الإسلامية ، حتى وصل إلى حد أن الله " يعطى النصر لمن يشاء " (24) .

 أقام بونابرت إدارة محلية من الزعماء المحليين ، إلى جانب الحامية الفرنسية  فى غزه ، وذلك بعد أن تخلى حاكمها ، عبد الله باشا ، وفرسانه الألفان عن الدفاع عن المدينة ، وانسحاب مماليك إبراهيم  بك إلى يافا .

 فى 1 مارس / آذار وصل كليبر وفرقته قرية اسدود ، ثم قرية بنية ،   قبل وصولها إلى الرمله ، فى 2 مارس/آذار ، ووجد الفرنسيين فيها مؤنا كثيرة ، ومعدات ، تركها المدافعون ، الذين ارتدوا إلى يافا . وكان الهدف من احتلال الرمله حماية مؤخرة الفرنسيين ، حين حصار يافا ، والتحكم فى طــــــريق الرمله – القدس التجارى ، الذى يربط بين القاهرة ودمشق ، ولاحكام الحصار من تلك الجهة ، لذلك ترك كليبر رينيه فى الرمله (25) .

 دخل جنود بونابرت مدينة الرمله ، ومدينة اللد ، بعد أن هرب منهما جنود الجزار ، ووجد فيهما مخزون كبير من البقسماط والشعير ، ورأوا فيها ألفا وخمسمائة قرية مجهزة (26) .

 فى 3 مارس/ آذار وصل بونابرت يافا ، وهاجمها ، بسرعة ، ليؤمن الاتصال البحرى عن طريقها ، مع دمياط ، والإسكندرية ، فتوجهت فرقتي الجنرالين ، لان،  وبون ، إلى الشرق ، والجـنــــوب من المدينة ، ورابطت فرقة كليبر عن نهر العوجا شمالى يافا بثمانية كيلو متر ، لقطع الاتصال مع عكا (27)  .

  تمت محاصرة يافا من جميع الجهات ، وأرسل بونابرت إلى حاكمها بأن يسلم القلعة ، قبل أن يحل بها الدمار ، وفى اليوم التالى أمر بونابرت بحفر خنادق حول سور المدينة ، وعمل متاريس أمنية ، وحصارات متقنه حصينة  ، ونصب مدافعه بجانب البحر لمنع الخارجين إليهم  من مراكب الميناء . رأت حامية يافا المتآلفة من أربعة آلاف مقاتل الكائنون بالقلعة ، أن جنود بونابرت قلائل ، لاختبائهم فى الخنادق ، وخلف المتاريس ، فخرجوا لهم جنوده ، وقتلوا منهم عدد كبير من تلك الواقعة . أرسل بعدها بونابرت خطابا إلى حاكم يافا ، أخبره فيه بأن حضوره إلى يافا أنما جاء لاخراج الجزار وجنوده منها لتعدية على أرض مصر بإرسال قواته إلى العريش ، وأخبره ، أيضا بمحاصرة يافا من جميع الجهات بالمدافع ، وامكان الفرنسيين دخولها فى خلال ساعتين ، وخوفه على الأهالى من بطش الجنود ، وسطوتهم (28)  . أرسل بونابرت إلى الجزار ضابطا تركيا لتسليمه المدينة ، فقتله الجزار ، هو والدليل ، ورفع رأسيهما على الحراب فوق السور ، فهاج بونابرت لهذا التحدى ، وكان قد ضاق ذرعا بهجمات فرق المغاوير  العرب من خلف الأسوار ، فشن هجوما كاسحا ، دخل على أثره المدينة ، واحتلها ، واستباح فيها كل شئ (29) .  برغم سقوط يافا ، بعد عدة ساعات من الهجوم إلا أن الفرنسيين استمروا يقتلون بوحشية الأهالى ، والشيوخ ، والنساء ،  والأطفال الرضع ، والصبيان ، المسلمون ، والمسيحيون ، وازدادت شراستهم كلما سمعوا صرخات الاستغاثة ، فعمدوا إلى اغتصاب الفتيات أمام أمهاتهم ، وواصلوا الغدر بالجنود ، حيث وعدوهم بأن يعاملوا كأسرى حرب ، فقام ثلاثة آلاف جندى بتسليم سلاحهم ، ومنهم مغاربة ، وسوريون ، وفلسطينيون ، وأتراك . وكان هؤلاء الأسرى يشكلون مشكلة لبونابرت فى طعامهم ، وحراستهم ، فهل  يطلق سراحهم فينضموا إلى عكا ، وسرعان ما انتهى تردده ، وأصدر قرارة بإعدامهم جميعا ( ثلاث آلاف عربى )  ، وصف أحد المواطنين الفرنسيين تلك المذبحة ، فى خطاب لأمــه ، قال فيه : أخذ الجنود المغاربة لشاطئ البحر ، وقتلوهم رميا بالرصاص ، وكان أملهم فى النجاة هو أن يلقوا بأنفسهم فى البحر ، والهرب بالسباحة ، فضربوا بالرصاص على مهل ، وسبحت جثثهم فى بحر دمائهم ، حتى القليل الذين وصلوا بعض الصخور ، صدرت الأوامر بالذهاب إليهم فى قوارب ، والإجهاز عليهم ، دون الإسراف فى الزخيرة ، فبلغت بهم الوحشية أن قاموا بطعنهم بالسونكى ، وكان من ضمن الضحايا أطفال كثيرون ، تشبثوا وهم يموتون بآبائهم ، صنه الأحياء من الأسرى متاريس من جثث رفاقهم ، الذين استشهدوا ، لتحميهم من طعنات السونكى "! .

 بعد خمسة أسابيع من تلك المذبحة ، طوق جيش والى دمشق قوات كليبر ، فى جبل طابور ، جنوب بحيرة طبرية ، واستمر يحاصره عشر ساعات ، حتى كادت ذخيرتة تنفذ ، واستبد العطش بجنود الفرنسيين لكن بونابرت أنقذ قوات كليبر ، بفرقه ، قادها بنفسه ، وأطلق المدافع ، فبدأ جيش والى دمشق بالانسحاب ليتوقى المدفعية ، فأصبح هدفا سهلا لجنود كليبر ، الذى أمرهم بمطاردته ، فخاضوا البحيرة ، لا ليشربوا ، ولكن ليقتلوا . وكتب أحد الجنود الفرنسيين فى مذكراته :" كنا نموت ظمأ . ولكن ظمأنا للانتقام ، أطفأ ظمأنا للماء ، وألهب ظمأنا للدماء ،  فخوضنا مياه البحيرة ، ولم نعد نفكر فى الشراب ، بل فى القتل ، وصبغ البحيرة بدماء هؤلاء الهمج ، حتى امتلأت بجثثهم "!.

 فى ذلك الوقت طبع بونابرت منشورا لأهل فلسطين قال فيه " وسيكون الدين على الأخص موضع الحماية ، والاحترام ، لأن جميع الطيبات من عند الله … والنصر من عند الله ",. فيما أثمرت جثث أهل يافا المتعفنة فى شوارعها ، ومتاريس جثث الجنود الأسرى التى ظلت على الشاطئ وأسفل جبل طابور ،  عن مرض الطاعون ، الذى ما لبث أن كان من أهم أسباب هزيمة بونابرت وجنوده ، تحت أسوار عكا . (30) 
 أعاد بونابرت المصريين ، الذين كانوا فى يافا ، بعد أن فشل فى ضمهم إلى الجيش الفرنسى  ، وكان بينهم السيد/ عمر مكرم ، الذى هاجر إلى يافا ، بعد معركة الأهرام (31) .
بونابرت وفكرة الوطن القومى
 لم يهمل بونابرت القدس ، بل كانت فى حسبانه ، وقد نظر إليها من الوجهة العسكرية ، وليس الدينية ، فطلب من حامية القدس تسليمها ، فأجابته بأن  مدينه  القدس تابعه لعكا ، فمتى فتحــها تسلم إليه (32) . 

  الجدير بالذكر أن بونابرت ربط بين الوطنية ، السباق الاستعماري ، المسألة الشرقية ، المسألة اليهودية ، إذ أن يهود العالم موزعين ، والحديث عن " العودة إلى فلسطين " نداء يتردد على لسان الحاخامات ، بين حقبة وأخرى ، ربما مرة كل ثلاثين أو أربعين سنه ، ولم يؤخذ هذا النداء مأخذ الجد ؛ لان العودة خلط متعسف للأسطورة بالتاريخ ، لكن المسألة اليهودية ، فى القرن التاسع  عشر ، أخذت على محمل آخر ، فهى ذلك الاضطهاد الواقع على اليهود فى أوروبا ، وكانت موجات الهجرة من الشرق هى النقطة الحرجة من " المسألة اليهودية " ،  فلا مسيحيو الغرب يريدونهم لضيق صدورهم باليهود المقيمين فى بلادهم ، كما أن يهود الغرب أنفسهم يرفضون وجودهم أكثر من المسيحيين ، فهم نجحوا بالكاد فى صرف الأنظار عن وجودهم ، وتلك الهجرة سوف تثير حساسية أوضاعهم مع المسيحيين مرة أخرى . ومن هنا بدأ بونابرت يأخذ عدة خطوات ، استغل فيها شغف اليهود ، وتدهور حالهم فى أوروبا ، وربط بين ذلك وبين قضايا القرن ، لتنفيذ إستراتيجية وأطماعة الاستعمارية . مستعمل ظاهرة " الوطنية " فى إيقاظ الوعى لدى اليهود ، فى حق تقرير مصيرهم ، وطالبتهم " بوطن قومى " ، ينقذهم من الشتات ، ويريح أوروبا من عبء الهجرة المتدفقة اليها من يهود شرق أوروبا . كما عزف بونابرت على الوتر الدين اليهودى وأساطيره ، لتكون فلسطين وطن اليهود المختار ، من أملاك الخلافة العثمانية الواهنة ، ويتسابق الكل على ارثها . ان نشأت دولة يهودية برعاية فرنسا فى فلسطين ، تكون نقطة البداية ، لتنفيذ خطة السيطرة على قلب الخلافة العثمانية ، قبل أن تنتبه القوى الأخرى ، وتتحرك إليها (33)  .
بونابرت رائدا
 
 يعد بونابرت أول رجل دولة ، فى العصر الحديث ، يقترح إقامة دولة يهودية فى فلسطين ، قبل وعد بلفور بـ  118 ، بل إن الرمز الصهيوني حاييم  وايزمان وصف بونابرت بأنه " أول الصهيونيين الحديثين غير اليهود ". اختار بونابرت الوقت المناسب للاعتراف بحقوق اليهود ، وذلك لخدمة مصالحه فى حملة على الشرق . ففى ربيع عام 1799، وهو على أبواب عكا ، أصدر بيانا طلب فيه من يهود أفريقيا واسيا أن يقاتلوا تحت لوائه ، لاعادة  إنشاء مملكة القس القديمة (34) . ثم أظهر بونابرت ورقته  اليهودية   أمام أسوار القدس ، نداء إلى يهود العالم ، تم توزيعه فى فرنسا ، وإيطاليا ، والأمارات الألمانية ، وأسبانيا ، مما يثير إلى أن القضية ليست ظرف محلى واجهه بونابرت عند أسوار القدس . ورغم أن بونابرت لم يكن يهوديا ، ولا مواليا لليهود ، فلم تكن ورقته اليهودية ونداءه  ليهود العالم من خارج أسوار القـــدس أكذوبة ، كحال ورقته الإسلامية ، التى وجهها للمصريين ، إبان دخوله بحملته إلى مصر فعدد من وجه إليهم ورقته الإسلامية يفوق المليونين ، فى استطاعتهم أن يجعلوا مصر مصيدة لجيوشه ، وليــــــس رأس جسر ، لذلك كانت ورقته خديعتهم .

 أما ورقته اليهودية فتختلف ؛ لأن اليهود فى فلسطين لم يزد عددهم عن 1800 شخصا ، طبقا لتقرير مرفوع لبونابرت من ضباطه ، منهم 13 فى مدينه القدس ، لم يكن فى مقدورهم أن ينصروه ، ولا أن يخلوه ، لذلك لم تكن ورقته بونابرت لليهود أكذبه ، او خدعة سياسية ، على غرار ورقته الإسلامية ، بل هى رؤية لإمبراطور يملك حسا استراتيجيا نابها وبعيدا (35) .   

 جاء نداء بونابرت ليهود العالم على أنه من القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية فى إفريقيا واسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين ، وأنهم الشعب الفريد ويحثهم على التمسك بوطنهم القومى فهذا هو الوقت المناسب لذلك وأن العناية الإلهية ترعاهم وأرسلت إليهم بونابرت لكى يحقق لهم حلم أجدادهم فى استعادة  أرضهم المغتصبة من الآلاف السنيين ….. الخ  (36) .   

 لم تكن هذه الورقة اليهودية هى أول نداء ليهود العالم من أجل أخذ " ارثهم الفلسطيني " المزعوم ، بل سبقتها ورقة غير رسميه أخرى عشية حملة بونابرت إلى الشرق ، هيأت الساحـــة لتـــك الورقة ، انتشرت بين اليهود الإيطاليين ، الذين اعتبروا بونابرت " محررهم العظيم " وتضمنت الورقة غير الرسمية خططا منفصلة عن بعث اليهود كأمه . وظهرت الرسالة مطبوعة فى فرنسا وإنجلترا ، حيث كان ممثلو الرأسمالية الإنجليز يرقبون حملة بونابرت ، والغيرة تملأ قلوبهم ، ويلقون بالتبعية على الساسة الإنجليز ، لإضاعة الفرصة من أيديهم . وفى إبريل/ نيسان عام 1798، نشرت إحدى الصحـــــــف الفرنسية رسالة عبرت عن قناعتها بأن اليهود سيدعمون فرنسا فى فلسطين ، لتحمل نفقات الثورة فى سوريا ومصر . ولعل من الأهمية بمكان أن مقدمة البيان خاطب اليهود ، بشكل مباشر  على أنهم " الورثة الشرعيون لفلسطين ". ما أعاد إلى الأذهان نبوءات ( أشعياء، ويوئيل ) التوارتية ، عن عودة اليهود إلى صهيون " . والأهم من ذلك أن الرسالة غير الرسمية تحدثت عن حدود دولــــــة إسرائيل المقترحة بعبارات تجارية أكثر منها توراتية :- أن الدولة التى تنوى إقامتها ستشمل ، بالاتفاق مع فرنسا ؛ " مصر السفلى ، بالإضافة إلى منطقة يحدها خط يمتد من عكا إلى البحر الميت ، وهذا الموقع الذى يعد أكثر المواقع فائدة فى العالم سيجعلنا ، عن طريق السيطرة على ملاحة البحر الأحمر ، سادة تجارة الهند ، والجزيرة  العربية ، وجنوب وشرق إفريقيا ، والحبشة ، وأثيوبيا " (37)  .

 أراد بونابرت كسب ولاء اليهود ، لتمويل حملته المتجهة إلى الشرق ، فهؤلاء اليهود قدموا قروضا مالية للحكومة الفرنسية ، وهناك أيضا ، حاييم فارحى ، اليهودى الذى يمثل العصب المالى والتموينى لمدينة عكا (38)  .

 فلم يسع بونابرت لحل القضية اليهودية ، بدافع من حبه للآخرين ، ولم يكن يريد إنشاء " وطن قومى " لليهود ، بل لأن مثل هذه الدولة تنسجم واهتمامه السياسى ، وتعد من أهم الركائز  الأساسية لتنفيذ استراتيجيته ، وخططه الاستعمارية لدول الوطن العربى .  لكن السؤال ؛ هل اليهود كانوا يدركون ذلك ، وهل حاولوا هم ، أيضا ، استغلال احتياج بونابرت لهم ؟  .    

حصار عكا : 
 
 بعد أن ألقى بونابرت بيانه التاريخى ليهود العالم ن على أبواب القدس ، توجه بجنــوده إلى عكا ، لمحاصرتها ، فهى العاصمة ، والقلعة ، ورأس الجسر ، الذى يعبر منه لتكملة مسيرته الاستعمارية ، لكن هيهات أن يحقق حلمه ، وهناك ذلك الجزار ، الذى ولد سنة 1735 فى بلاد البوشناق ، فهو نصرانى ، بالولادة ، اقترف وهو صبى ، جرما أخلاقيا ، فر ، على أثره ، إلى القسطنطينية ، وباع نفسه إلى نخاس يهودى ، وسمى نفسه أحمد ، وانتهى به الأمر مملوكا عند على بك فى القاهرة ، الذى عينة جلادا . وقد اظهر أحمد من التفنن فى إنفاذ مهمته ، ما أكسبه لقب " الجزار " ، وكان شديد التفاخر بهذا اللقب ، حريصا على أن يكون جديرا به (39)  . اتبع الجزار سياسة إلقاء الفتن بين المشايخ والأمراء ، وكان طائش السيف ، ظالما ، فسخط عليه عامة الشعب ، والحكام فى مصر ، ففر إلى الأمير يوسف الشهابى فى سوريا .

 وفى سنه 1770 قام بتحصين مدينة بيروت ، ومنع أهل جبل لبنان من دخولها ، وأزمع على العصيان ، ففطن لذلك الأمير يوسف ، وهم بأن يبطش به ، إلا أن الجزار خضع له ، وأطاعه ، ثم جاهر بالكفران عليه ، وغلبه ، كما أزال أمارة على بن ظاهر العمر ،  بقتله ، واستحوذ الجزار على ما كان يملك العمر وأهله من المقاطعات ، واتخذ من عكا عاصمة له ، وبنى عليها سورا ، وجامعا كبيرا  (40)  .  أصبح الجزار صاحب النفوذ الأول فى سوريا ، عدا حلب ، وتولى أمارة الحج . ولكن لقسوته تعرض لعدة ثورات ، منها ثورة الأمير يوسف ، الذى أنضم إليه الدروز ، والثوار ، وانتصروا ، فى البداية ، ثم سرعان ما هزمهم الجزار (41) . وما فتئ الجزار يقتل ، ويذبح ، ويثير الفتن بين المشايخ حتى زادت ثقة الدولة العثمانية به ، واعتمدت عليه ، فازداد بطشا وإرهابا للناس (42) .

  استمر الجزار فى القضاء على خصومه ، ومنافسيه ، بلا رحمة ، ولا شفقة ، ولا يزال اسمه مرادفا للقسوة البالغة .  فقد ذكر ميخائل شاقة * ،  أن جده ، الذى كان موظفا فى الحكومة شاهد يوما ، أكثر من أربعين رجلا يصفون خارج أسوار المدينة ، لينفذ فيهم حكم الإعدام ، بالخازوق ، أورد المؤرخ نفسه أن الجزار أرتاب يوما ، بعد رجوعه من الحج ، بتصرف حريمه ، وعددهم 37 امرأة ، فأمر بحرقهـــــن جميعا (43) .

 يعد الجزار من أهم الزعماء ، فى تلك المرحلة ، التى اتسمت باحتدام الصراع بين دول الغرب والمملكة العثمانية . أثناء تولى الجزار على صيدا ، تصدى للفرنسيين ، حيث اتبع سياسة وطنيه للتجارة فقام بطرد الجالية الفرنسية ، التى كانت تحتكر التجارة فيها ، وتحي حياة البذخ والتبذير ، إذ كانت تجارة منطقة سوريا وفلسطين مورد غنى للفرنسيين ، كسبوا منها ثروات طائلة ، وعلاوة على احتكارهم التجارة ، ثمة أسباب أخرى ، وسعت هوت الخلاف بين الجزار والفرنسيين ، منها سوء أخلاق هؤلاء التجار المقيمين فى صيدا ، وغيرها ، وتعديهم المستمر على الآداب ، وأيضا تشجيع التجار الفرنسيين القراصنة المالطيين على مهاجمة السفن العثمانية ، لمنع التجار العثمانيين من مزاحمتهم ، ولكى يحتكر الفرنسيون الأسواق المحلية ، والتحكم فى الأسعار (44) . 

 استحوذ القلق على الجزار بنزول بونابرت مصر ، وبدأ باتخاذ الاحتياطات اللازمة ، وحث المسلمين على " الجهاد " ، وتحالفت الدولة العثمانية مع الإنجليز ، ووصل الأسطول الإنجليزي ، بقيادة سيدنى سمث ، إلى عكا . وبعد أن وصلت أخبار يافا للجزار ، صمم على المقاومة ، معتمدا على أسـوار عكا ، وبراعة جنوده ، وعزز ذلك بخبرة فيليبو الفنية ، وهو أحد النبلاء الذين أجبرتهم الثورة الفرنسية  على مغادرة فرنسا ، قدمه له سيدنى سمث ، كمهندس حربى مختص بفن التحصين ، والدفاع فى حالة الحصار ، وايده فى توصياته الخاصة ببناء سور داخلى ، للإيقاع بمن يخترق السور الأول ، أثناء الحصار .  

 أرسل بونابرت برسالة إلى الجزار ، قال فيها أنه أتى لحماية المسلمين ، ومحامــل الحج الشـريف ، وللإبقاء على الصلاة ، و "سوف تكونوا  آمنين ، وتفتحوا البنادر والمتاجر " . لكن الجزار لم يستمع إليه . فهو يخشى بونابرت ، وان كان لا يصدقة (45) .   

 

*   ميخائيل شاقة أحد مؤرخى هذه الحقبة .    

وصل بونابرت عكا ، فى 18 مارس/ آذار ، وكانت محاطة بأسوار وأبراج ، وخندق عميق وعريض ، وينقل الماء إليها بقناة محكمة البناء ، ويدافع عنها حوالى سته آلاف جندي ، وفيها حوالى 30 مدفعا ، فى الوقت الذى لا تتعدى فيه المدافع الفرنسية الاثنى عشر ، سلطها بونابرت على البرج الرئيسى فى الزاوية الشرقية لعكا (46) .     


 تولى الجزار الدفاع البرى ، والأميرال الإنجليزي ، سيدنى سمث ، الدفاع البحرى ، وكان الجنود العثمانيون يفدون بكثرة ، على الجزار ، واستماتوا فى الدفاع عن عكا بعد أن اطلعوا على أنباء ما فعله بونابرت بحامية العريش ، وغزه ، ويافا . ولم يستطيع بونابرت استمالة إي من الأمراء ، لخوفهم من بطش الجزار ، وشدته .  فأثناء حصار عكا أرسل بونابرت فرقا الى القاهرة ، وصفد ، ووقعت معركة بين الفرنسيين وجنود الأتراك ، وحول جبل طابور ، وهزم العثمانيين ، وجاء بعضهم للتفــــــــــاوض مع بونابرت (47)  . ووعد بونابرت اثنان من أبناء ظاهر العمر ، الذى قام الجزار بقتلة ، ومعه خمسون شيخا محليا ، منشقين على الجزار ، أنه سيعيده إلى قصر أبيه ، الذى اغتصبه الجزار ، وتقديم المناصب والمؤن إليهم . واتصل بالأمير بشير الثانى الشهابى ، أمير الدروز بجبل لبنان لطلب المؤن ، وحرص بونابرت على عدم مصادرة مؤن فلاحى فلسطين ، لكى لا يثوروا ضده .

 فى 27  مارس / آذار ، تسلق جنود بونابرت أسوار عكا ، ولكنهم صدوا ، بقوه ، وتكبدوا خسائر جسيمة ، إن جنود عكا ردوا بهجوم مضاد ، كبد وهم خسائر كبيرة ، عكس ما كان يعتقد بونابرت بأنه سوف يحتل عكا فى الهجوم الأول ، بدأ التذمر ينتتشر بين جنود بونابرت ، بسبب عدم استطاعتهم احتلال عكا ، بعد ردهم على هجوم الجزار فى 2 إبريل / نيسان وتكبدهم خسائر فادحة (48) .


 حرص بونابرت على احتلال المناطق المجاورة لعكا ، ترقبا للهجوم العثمانى ، فارسل الجنرال فيال ، فى 4 إبريل / نيسان ، بأربعة آلاف جندى إلى صور ، واحتلها ، ونزل فيها بعض الجنود ، ثم وجه قوات إلى طبرية ، وأرسل الجنرال مورا ، لاحتلال قلعة صفد ، بهدف تأمين الطريق بين دمشــق وفلسطين ، والجنرال جينو  إلى الناصرة ، لمراقبة الطريق عبر نهر الأردن (49) .

 فى 16 إبريل/ نيسان ، استولت قوتان عثمانيتان قدمتا من دمشق ، بقيادة عبد الله باشا ، والى الشام ، وجنود مماليك ، بقيادة إبراهيم أغا ، وجنود آخرين من سوريا ، ومصر ، والأتراك ، وفلاحـى نابلس ، والمغرب على طبرية ، وقريه لوبية ، وسيطروا على طريق طبرية – الناصرية .

 اتجه كليبر من عكا إلى الناصرة ، بناء على تعليمات بونابرت ، فى 9 إبريل/ نيسان ، لمساندة جينو فى هجومه على العثمانيين الموجودين فى طبرية ن قد أخذت القوات العثمانية جبل طابور ، وقرية الفولة ، فى مرج أبن عامر ، مركزا لها ، وكان عددهم ثلاثين ألفا ، وقوات كليبر 500 جندى ،واربعة مدافع  .

 أمر بونابرت كليبر بمهاجمة القوات العثمانية ، واندلع قتال بين الطرفين ، وكاد كليبر أن يهزم ، لولا وصول بونابرت له ، وهزمت القوات العثمانية فى جبل طابور . فى 17 إبريل / نيسان استولى بونابرت على ذخائر ومؤن كثيرة ، واستعاد صفد ، واحتل طبرية ونهب وأحرق قرى ، الفوله ، ونورس ، وجنين ، وقرت خسائر العثمانيين بثلاثة آلاف والفرنسيين ثلاثمائة بين قتيل وجريح ، عاد بونابرت إلى عكا ، وحاصرها ، وعهد إلى فرقة كليبر بحماية جسر بنات يعقوب ، وحصينى صفد ، وطبرية من القوات العثمانية ، ثم عاد بعد ثلاثة أسابيع إلى عكا ، وبقى الجنرال جينو فى الناصرة ، للمحافظة على صفد ، وطبرية ، وفى هجوم فاشل من بونابرت على عكا ، توفى على أثره قائد سلاح الهندسة الفرنسى ، كافاريلى ، ورد عليهم الجزار ، بمساعدة الإنجليز ، بهجوم مضاد ، ووصلت نجدات عثمانية إلى عكا ، بطريق البحر ، ضمت أكثر من عشرة آلاف مقاتل ، حاول بونابرت دون وصولها ، ولكن وصلت بعد بعض الخسائر (50) .

 لكن بثبات الجزار ، وشجاعته الفائقة ، جعلت بونابرت يجمع جنوده ، وخطب فيهم خارج أسوار عكا ، فقال : " هذه المدينة هى مفتاح الشرق ، فاعلموا حرج مركزكم ، ووحدوا عزائمكم على امتلاكها ؛ لان بامتلاكها تسلمون لدولتكم مفتاح الشرق ، فتدخل القسطنطينية ، عاصمة قياصرة الروم ، ونملك شرقى أوروبا وشماله ، فاعلموا ذلك واخلصوا  نياتكم " .  ما ألهب حماس جنوده ، فاقتحموا الخنادق ، وفتحوا ثغرات فى الأسوار ، وهزموا الحامية ، ودخلوا البلدة ، حتى وصلوا الجامع الكبير ، فخرج الجزار يقاتلهم  بنفسه ، ويحرض الجنود على الثبات ، وكان يفتك بكل من يعمد إلى الفرار من مقاتليه ، فاستبسلوا حتى ردوا بونابرت ، وجنوده خائيين (51) .

 فى 11 مايو / ايار هاجم بونابرت عكا ، لمدة ثلاث أيام متصلة ، أنتهى بخسائر للجانبين . وفى 12 مايو / ايار شن الجزار هجوما على الفرنسيين ، وبانتشار الطاعون بين جنود بونابرت ، وتعدد هجمات جنود الجزار ، باءت محاولات بونابرت بالاستيلاء على عكا بالفشل فكتب لحكومته فى باريس بقرار انسحابه إلى مصر ، حيث رأى بأنه حتى لو استولى على عكا ، ستكون مقبرة له بسبب الطاعون ، ونقص المؤن وتصميم العثمانيين ، والإنجليز ، على المقاومة ، حيث كان العثمانيون يعدون لإرسال جيش من أجل طرد الحملة من مصر ، وحاول بونابرت التفاوض مع الجزار ، وسيدنى سمث ، لوقف القتــال ، ورفضا ، وتأكد بونابرت أن عكا لن تسقط ، فرفع الحصار عنها ، وانسحب إلى مصر (52) .
 لعل من أهم أسباب فشل بونابرت فى احتلال عكا :
1- كان تحصين الإنجليز لعكا ، ومساعدتهم الفعالة ، التى جعلت من الحصار كأن لم يكن ، بإيصال المؤن إلى عكا ، وامداد الجزار بالعتاد ، وانزلوا إليه الأسطول العثمانى ، واستولوا على آلات ، ومدافع الأسطول الفرنسى ، وسلموها للجزار ، كى يستخدمها .
2- كان فيليمو ، ذلك الفرنسى الذى حارب بونابرت ، نكاية بالثورة الفرنسية ، منظم الدفاع عن عكا ، بشكل فنى ، حتى قال كليبر بأن الجزار يدافع بالطريقة الأوربية (53) .
3-   كان بدأ بونابرت غزو فلسطين ، معاصرا لتجدد التصميم من حركات المقاومة فى مصــر على الجهاد ، ومنها واقعة مراد بيك مع الفرنسيين فى الصعيد ، التى قتل فيها زهاء ثلاثمائة فرنسى ، ما جعل موقف بونابرت فى حرج ، فى محاولة لإخماد الانتفاضة الشعبية ، فى الداخل ، وصراعه مع الجزار فى الخارج .
4- كانت مشاركة أهل الحجاز ، ومحمد المغربى الذى صار له جيش كبير من ضمن العوامل ، التى ساعدت فى هزيمة بونابرت .
5-  كان موت الجنرال بون متأثر بجراحة ، وأيضا ، الجنرال كفرللى الذى قام بإقامة المتاريس والذى يصعب تولى غيره آمرها .
6-  كان نقض الصلح بين فرنسا والنمسا من أهم الأسباب أيضا .
7- كان مرض الطاعون ، الذى فتك بالجنود وكاد يقضى عليهم جميعا ، مع نقص المؤن ، من أهم العوامل أيضا . (54) .
للأسباب السابقة مجتمعه   ، لم يكن لبونابرت ، أو كليبر مجد فى عكا ، فقد قال بونابرت :" لو استطعت الاستيلاء على عكا ، للبست عمامة ، ولجعلت جنودى يرتدون السراويل ، ولجعلتهم فيليقا مقدسا ، ولنصبت نفسى إمبراطورا على الشرق ، ولعدت إلى باريس بطريق القسطنطينية ". لكن هذه الأحلام دفنت تحت أسوار عكا . المجد الذى تحقق فى حملة الشام ، حققته  عكا ، بصمودها 62 يوما تحت الحصار ، ونيران المدافع الفرنسية ، ومع ما فتحته ، من ثغرات من أسوارها ، والهجوم عليها ، والمذابح الوحشية التى ارتكبها جنوده (55) . 

 فى 19 مايو/ آيار تم إجلاء آلف ومائتى جريح فرنسى بحرا باتجاه دمياط ، وأتلفت الحامية الفرنسية ، بقيادة جينو ، مستودعاتها فى طبرية ، قبل أن تنسحب إلى صفو ريه . وفى عكا أتلف الفرنسيون مدفعيتهم الثقيلة ، ولم يفتهم هدم الأقنية التى تذود عكا بالماء .


 فى 20 مايو / آيار انسحب بونابرت من عكا ، دون أن يحقق حلمه فى الاستيلاء عليها ، وقامت فرقة كليبر ، والفرسان ، بحماية المؤخرة ، إلى أن يتم الانسحاب ، فغادرتا عكا ، وهدما الجسور على نهر كيسون .

 خلف بونابرت وراءه فى حيفا حوالى مائة من الجرحى والمرضى الفرنسيين وأخريين فى خنطورة ، وصادر جيود الجند ، لنقل المرضى ، وأتلف ذخائر ، ومدفعية أخرى ، تعذر نقلها لمصر .

 فى 23 مايو/ آيار وصل بونابرت إلى قيادية ، وأتلف جزءا آخر من مدفعيته وبطش بأهلها ، عندما حاولوا مهاجمة الحملة .

  فى 24 مايو/ آيار وصل بونابرت إلى يافا ، وأقام فيها أربعة أيام ، أتلف خلالها تحصين لهم ، ومستودعاتهم ، فى الوقت الذى قد مات فيه نصف حامية يافا من الطاعون ، علاوة على ألف جريح ، ومصاب ، نقل منهم ثلاثمائة ، عن طريق البحر  ، وقتل بعضهم بالسم .

 فرض بونابرت على سكان يافا غرامة ، قدرها 107ر174ليرات ذهبية ، حصلوا على 608ر85 ، فورا ، واخذوا الرهائن ، حتى يدفع المبلغ الباقى . وأحرقوا المراكب فى مينائها . وغادر بونابرت يافا ، فى 28 مايو/ آيار ، وتخلف كليبر ، يوما ، لحماية المؤخرة ، ويقوم جنوده بسرقة القرى ، وحرقها ، إذا هاجمتهم ، ووصل غزه ، فى 30 مايو/ آيار ، وتوقف فيها يومين ، لفرض الضرائب على أهلها . وترك فيها عددا من المرضى المصابين بالطاعون ، بعهدة أعيان المدينة ، وأخذوا منهم الرهائن ، وصل بونابرت خان يونس ، فى 1 يونيو/ حزيران ، ومنها للعريش ، ثم إلي قطبة . 

 وصل بونابرت القاهرة ، فى  14 يونيه / حزيران 1799 ، بعد قرابة أربعة أشهر ونصف ، قضى منها فى فلسطين حوالى ثلاثة أشهر ونصف ، أسفرت عن خسائر فى جنوده كالآتي : عدد القتلى والمتوفين 4400 ، منهم 3920 قتلى ومتوفون بسبب جروحهم ، 480 متوفى بسبب الطاعون ، 2150 جريح . فيكون مجموع الإصابات 6550 ، وكان مجموع أفراد الحملة ، فى بدايتها 12945 (56) .

 هكذا عاد بونابرت إلى القاهرة ، بعد أن نقص جيشه ، بمقدار الثلث ، لكنه يقوم بتنظيم استقبال ظافر . وأصدر بيانا باللغة العربية ، لابلاغ سكان القاهرة بأنه لم يعد ثمة حجر فوق الأخر فى عكا ‍" إلى حد انه يمكن للمرء أن يتساءل ، فيما إذا كانت توجد مدينة فى هذا المكان من قبل ". وظهر بأن القائد العام الذى لم يفلح فى استخدام ورقة العربية عاد ، مرة أخرى ، للإسلام . فقد أوضح بأنه " يحب المسلمين ، ويحتر م النبى ‍‍". ويعتزم " بناء جامع ، لامثيل له فى العالم " . بل حتى " سيعتنق الدين الإسلامي ‍ " (57)   . 
بيد أن القصة لم تكتمل فصولا   .

كليبر يخلف بونابرت :

 عاد بونابرت ، سرا ، إلى فرنسا ، فى 18 أغسطس/ آب 1799 ، وأشاع بأنه يقصد الذهاب إلى منوف ، بحجة التفتيش على أحوال البلاد (58)  . 

  انه بونابرت نفسه ، الذى جاء قبل ذلك بثلاث سنوات ، ليبنى إمبراطورية فرنسية شرقية ، تضرب إنجلترا فى الصميم ، وتقطع طريق تجارتها إلى الهند . ضاع كل هذا ، ومعه نصف جيشه ، تحت وطأه ، الطاعون ، والثورات ، وأمام أسوار عكا .

  خلفه كليبر فى التركة المثقلة بالديون ، حتى وصل العجز فى خزانة الحملة الفرنسية ، إلى عشرة ملايين من الفرنكات ، وتدهورت معنويات قوات الحملة ، فهل يستطيع كليبر الخــــــروج من المحنة ؟ .

 لقد اختار كليبر لنفسه أسلوبا آخر ، يختلف عن بونابرت ، فأحاط نفسه بمظاهر الآبهة والجبروت ، متخيلا  إنها تؤثر فى العرب ، وفرض على الشعب أن يؤدى له ما كان يؤديه للباشوات والولاة المماليك من مظاهر الإجلال والتكريم (60)  .

 بطش كليبر بالمصريين " قتلا ، وحرقا ، وسبيا للنساء ، والبنات ، والغلمان ". وأفلس البلاد ، بالغرامة الوحشية ، كما زرع الأحقاد التى تهدد وجود الأمة ، ووحدتها ، وتحولها  إلى نفاية ،  فإذا بالأمة تقذفه إلى الفناء ، على يد سليمان الحلبى (61) .

 ولد سليمان محمد آمين الحلبى ، فى حلب ، عام 1691هــ / 1777م  ، لأب  تاجر زبد بمدينة حلب السورية . وهو شاب كثير التجوال ، عاش ثلاث سنوات فى مكة ، والمدينة ، ودرس بالأزهر ، ثلاث سنوات متصلة ، على يد الشيخ مصطفى أفندى ، وزار القدس ، ونابلس ، وغزه . 

 فى بداية عام 1800 رحل سليمان من حلب الى فلسطين ، مكدودا وضائقا لما فرضه والى حلب العثمانى ، إبراهيم باشا ، على أبيه من غرامة كبيرة ، وحاول سليمان البحث عن عمل ، وقضى خمسة أشهر ، بجوار المسجد الأقصى ، وعلم سليمان بما فعله بونابرت بأهل يافا ، وجنودها ، وبحامية دمشق ، ومعسكر العريش ، وشاهد  سليمان آثار التدمير بنفسه . ذهب سليمان إلى أحمد أغا ، محافظ القدس ، نهاية مارس/ آذار 1800م ، يشكو ما يلاقيه والده الحاج محمد آمين من اضطهاد ، وضرائب ، وغرامات ، من محافظ حلب ، وتعددت اللقاءات بينهما ، وطرح مشروع اغتيال كليبر نفسه على لقائلتهما .

 توجه سليمان إلى القاهرة ، لتنفيذ مهمته ، وطلب منه أحمد أغا السفر إلى غزه ، ليلتقى بشخصا اسمه ياسين أغا ، الذى سيقدم له المساعدات اللازمة لتنفيذ المهمة ، غادر سليمان القدس إلى الخليل ، ظل بها عشرين يوما فى انتظار قافلة يرافقها إلى غزه ، ليكون فى مأمن من قطاع الطرق ، ووصـل إلى غزه ، فى نهاية إبريل / نيسان 1800م ، والتقى بياسين أغا ، الذى كان على علم بمهمة سليمان ورتب له إقامة مؤقتة فى جامع غزه الكبير ، وتردد عليه ، عدة مرات ، ليلا ، للتباحث ، ووعده ياسين برفع الاضطهاد عن أبيه ، وأن يشمله بحمايته ، وأعطاه مصاريف سفره ، وأوصاه بالحذر ، والكتمان ، وألا ينفذ المشروع ، إلا بعد أن يتأكد من نجاحه . واشترى سليمان الخنجر ، الذى قتل به كليبر ، من غزه ، والتحق بأول قافلة من غزه إلى القاهرة ، محملة بالصابون ، والدخان ، واصلت السير ، لمدة ستة أيام ، قضاها سليمان على ظهر هجين . 

 وصل سليمان القاهرة ، فى منتصف مايو/ آيـار  1800م، ولا تزال أثار الحريق موجودة فى جميع شوارعها ، فحطت القافلة فى قرية بجوار الجيزة ، لمنعها من دخول القاهرة ، لظــــــــــــروف المدينة (62)  . 

 دخل سليمان القاهرة ، فى 14 مايو/ أيار 1800 م ، واستضافه لمدة قصيرة الشيخ مصطفى أفندى ، أستاذه الذى تعلم على يديه الخط وحفظ القرآن ، قبل ثلاث سنوات .

 نقل سليمان إقامة الى الجامع الأزهر ، والتقى بأربعة من أصدقائه ، جميعهم من غزه ، طلاب فلسطينيي فى الأزهر ، وهم عبد الله الغزى ، وأحمد الوالى ، ومحمد الغزى ، وعبد القادر الغزى ،  الذين سهلوا له إقامة فى الأزهر ، دون إخطار السلطات الفرنسية (63) . 

 مكث سليمان شهرا بالأزهر ، قبل قتله كليبر ، لمس عن قرب اضطهاد وأهانه وتعذيب كليبر للشيخ السادات ، الذى تزعم ثورة القاهرة الأولى ، والمحرض على الثورة الثانية ، من فرض غرامه مالية كبيرة عليه ، واعتقاله ، وتعذيبه ، وضربه أمام زوجته ، التى حبسوها معه ، ومصادرة أمواله ، وبيع أملاكه ، لدفع الغرامة التى فرضها كليبر عليه ، ناسيا مقامه ، كرجل دين ، ونسبه ، ومولده ، المستمد من السلالة النبوية ، فعم السخط رجال الشرع ، وعلماء الدين ، والشعب ، ناهيك عن ما تكبده الشعب ، بكـــل طوائفه ، من مهانة ، ونهب لأموالهم ، وفرض غرامات ، واعتقال لأعيانهم ، وقتل أبنائهم (64)  .

 هكذا وجد سليمان القاهرة فى أسوأ أحوالها . ورغم الصعوبات التى  انتصبت فى وجه تنفيذ مهمته ، فانه ظل يبحث ويدرس انسب مكان ووقت لاغتيال كليبر . حتى جاءت اللحظة الحاسمة ، فى يوم 14 يونيه/ حزيران 1800م، أثناء تفقد كليبر بصحبة المسيو بروتان ، المهندس المعمارى ، وعضو لجنة العلوم والفنون ، أعمال الترميم فى دار القيادة العامة ، ومسكن القائد العام الخاص به ، لإزالة آثار الإتلاف ،  الذى أصابها من جراء ثورة القاهرة الثانية ، إذ خرج عليهما سليمان ، واقترب من  كليبر ، كمن يريد أن يستجديه ، أو يتوسل إليه ، فلم يرتب فيه ، ولم يلتفت إليه ، فعاجله سليمان بطعنة خنجر مميت’ ، أصابته فى صدره ، ثم تلتها عدة طعنات قاضية عليه ، وعلى آماله فى تخليد مركزه ، وتحقيق مشروعاته السياسية ، والحربية ، فى وادي النيل ، ولاذ سليمان بالفرار مختفيا فى حديقة السراى (65) .


 اتجهت أنظار الفرنسيين ، فى بادئ الأمر ، إلى اتهام العلماء ، الذين قاموا بالتحريض على ثورة القاهرة الثانية ، ففتشوا بيوتهم ، ولم يجدو  ما يدينهم (66)  .

 انتشر خبر مقتل كليبر ، بسرعة البرق ، وتلقاه الأهالى بالدهشة ، والجزع الشديدين ، لتوقعهم الانتقام ، والنكال ، وتلقاه الفرنسيون بالغضب ، والسخط ، والتحفز للانتقام ، فتجمع الجنود ينادون بالأخذ بالثأر ، ويهددون بإحراق المدينة ، ويضربون ، ويقتلون من صادفهم من الرجال والأطفال ، فخلت الطرق من المارة ، وأغلقت المحلات أبوابها ، وأخذت دوريات الجنود تجوب الشوارع لبحث عن سليمان ، وبعد ساعة عثروا  على سليمان ، مختبئا فى الحديقة الملاصقة لدار القيادة ، وأرسل إلى دار أركان الحرب مع اثنين من ضباط الحرس الملازمين للجنرال كليبر ، حيث كان  قواد الجيـش مجتمعيين ، بعد ضربه وتعذيبه (67)  .

 انتهى التحقيق ،  فى  اليوم نفسه ،  وتحدد اليوم التالى (15 يونيو/ حزيران 1800)  لبدء المحاكمة ، وأصدر الجنرال مينو ، خليفة كليبر ، أمرا  بتشكيل  المحكمة من تسعة من قادة الجيش الفرنسى ،  وأشرف مينو على التحقيق ، بنفسه .

 فى الجلسة الأولى أجرى التحقيق وجمعت أدلة الاتهام ، وأسفر اتهام سته أشخاص ، هم : سليمان الحلبى ، والأزهريين الأربعة ، محمد الوالى ، عبد لله الغزى ، عبد القادر الغزى ، ومحمد الغزى ، وأستاذه الشيخ مصطفى أفندى ، الذى نزل عليه عند وصوله القاهرة . 

 انعقدت المحكمة ، فى 19 يونيو/ حزيران 1800 ، وأدانت سليمان الذى قال بعد تعذيبه ، أن أسمه سليمان ، عمره 24 عاما ، صناعته كاتب عربى ، وسكنه حلب ، واعترف بقتله كليبر ، ومن أهــــــــــم ما قاله ، بعد أن رفعوا عنه الضرب ، أنه جاء من غزه  إلى مصر ليغازى فى سبيل الله .

 لم يحلم البطل سليمان بمجد ، فجاءت كلماته بسيطة ومعبرة لهدفه الواضح ، الجهاد فى سبيل الله ، ظل البطل صامتا هادئا ، أثناء محاكمته ، رجل فعل ما يريد ، ولا يعنيه ما يجرى حوله .  ولو تكلم هذا البطل ، لنقلت جثه كليبر إلى قفص الاتهام ، ليعرف حقا من هو صاحب اليد الأثيمة المغتصب ومن هو القائد الجليل ؟! (68)  .

 حكمت المحكمة بحرق يد سليمان اليمنى ، ثم يوضع على الخازوق حتى يموت ، ويترك لتنهش الطيور جسده ، والحكم على الشيوخ الأربعة ، بقطع رؤوسهم ، لاشتراكهم فى الجريمة ، بعدم إبلاغهم ، رغم علمهم مسبقا بها ، والإفراج عن الشيخ مصطفى أفندى .

 تم  تنفيذ حكم الإعدام فى ثلاثة من الشيوخ ، وإحراق جثثهم ، أمام سليمان ، وانقذ عبد القادر الغزى ، الذى لاذ بالفرار ،  بعد مقتل كليبر ، وحكم عليه ، غيابيا .

 فى 17 يونيه / حزيران 1800 ، انزل نعش كليبر على تل العقارب ، مكان تنفيذ الحكم على سليمان الحلبى ، فأطاح  بارتلميى *  برؤوس الشيوخ الثلاثة ، ورفعها فوق عصا طويلة ، وغرسوها فى أرض التل ، وأشعلوا النار فى جثثهم ، أمام سليمان ، ثم نفذ الحكم على سليمان ، بوضع كفه الأيمن فى الجمرة ، ولم يتكلم البطل والنار تأكل لحمه الحى ، ولكنه اعترض ، عندما تعمد بارتليمى أن تطول النار مرفقه ، مبنها إياه بأن الحكم لم يذكر إلا اليد فحسب ، وتشاجر معه ، وأصر على حقه ، وبعد ذلك بدأ فى تنفيذ باقى الحكم ، فقام بعملية الخزوقة بمهارة ،  أحضر بارتليمى قضيبا مدببا من الحديد ، ثم بـدا فى أد خالة فى شرج البطل ، بالدق بمطرقة خفيفة ، حتى لا يحدث نزيفا يؤدى الى موته ، قبل أن يتعذب بما يكفى ، ثم رفع الخازوق قائما  ، وعليه سليمان ، ثم غرس فى الأرض ، لتأكله الطيور الجارحة .

* با رتليمى هو مسيحى بونانى مشرقى ، أنضم للفرنسيين ، وقد كلف بالأعمال الخسيسة ، وكان محافظ القاهرة ، فى ذلك الوقت  .
 وعندما دفن جثمان كليبر ، كان الشهيد سليمان الحلبى جالسا على خازوقه فوق تل العقارب ، يصلى (69)  .  

 استشهد البطل سليمان الحلبى ، مرفوع الرأس ، وشارك من قام بإصدار الحكم عليه وتنفيذه ، فى أن تظل رأس الشهيد مرفوعة ، رغم أنفهم جميعا ، بدون أن يقصدوا ذلك .

  احتفظ الفرنسيين بالهيكل العظمى للشهيد سليمان ، ووضعوه فى حديقة بباريس ، كما احتفظوا بجمجمته فى غرفة التشريح بمدرسه الطب بباريس ، ثم وضعوها ، بعد ذلك فى متحف الإنســـــــــــان ، ولا يزال  خنجره فى مدينة كار كسون بفرنسا  (70)  .

 يعد الشهيد سليمان الحلبى نموذجا للمجاهد الإسلامي والثورى الشرقى ، الذى وهب حياته لتأكيد الوحدة العربية ، من قبل قرنيين .

 ثمة عدة تساؤلات يثيرها هذا العمل البطولى للشهيد والبطل القومى سليمان الحلبى : هل هى حادثه فرديه ، انتقاما لوالده ، كما ادعى الفرنسيين ، أم أثاره ما سمعه وما شاهده من أفعال بونابرت وجنوده ، بأهل فلسطين ، ومصر ؟ أم كان تعذيب كليبر لأستاذه وشيخة الجليل السادات وراء سخطه واندفاعه لقتل كليبر ؟ . 

 أم كانت تلك الأسباب مجتمعة ، وراء تصميمه على قتل كليبر ، اعتقادا منه بأن قتل الرأس ينهى الجسد ، وبالقضاء على كليبر ستنتهى الحملة الفرنسية  .  

  أم كان البطل ضمن تشكيل وتنظيم قومى ، خطط ، ونفذ ، باقتدار ، عملية اغتيال القائد العام لقوات الاحتلال ، التى تتميز  بضخامة الهدف ، مع ضالة الخسائر ، بالنسبة للتنظيم الثورى ، الذى نفذها ، حيث لم تسقط سوى الخلية المنفذة فحسب .

 سواء كانت حادثة  فردية ، أم كانت مخططا من تنظيم قومى ، فان الشهيد سليمان الحلبى ، يعد نموذجا للمجاهد  الإسلامى ، والثورى القومى ، الذى وهب نفسه لتأكيد الوحدة العربية (71) .

 لقد أدى مقتل كليبر إلى ارتياب الفرنسيين فى الأزهر ، إذ كان يأوى إليه الشهيد سليمان الحلبى ، ورفاقه ، ولم يقتنع الفرنسيون بعدم علم علمائه بمقتل كليبر ،  فذهب الجنرال مينو ، الذى تولى قيادة الحملة بعد كليبر ، مع بعض أركان قيادته ، وطافوا بالأزهر الشريف وشرعوا فى الحفر فيه ، بحجة البحث على السلاح ، فلما رأى العلماء أن الأزهر أصبح عرضه للريبة ، عرضوا على الفرنسيين إغلاقه مؤقتا ، وقد كان  (72)  . 

 وفى 18 أكتوبر / تشرين الأول 1801، أبحر الجنرال مينو من الإسكندرية ، متجها إلى فرنسا ، باعتباره آخر أفراد حملة بونابرت عل الشرق . 

وبذا   أسدل الستار على الحملة الفرنسية برمتها ، سواء منها ما جعل مصر وجهته ، أو ما حاول غزو فلسطين ، من بعد .
بقلم:آمـــــال الخــزامى