أسمي أحمد المصري..

ثلاثة أيام ونحن في هذا المكان.

حتى الحجارة المتناثرة هنا وهناك أعلنت قرفها، وقد حملتنا أفراداً ننتظر فرجاً يأتينا، ويسمح لنا عبور الحاجز المدجّج.

وجوه كثيرة تحمل تفاصيل مدهشة تتجوّل بلا هدف في ذلِّ الزحام، كانت لي على مدى الأيام الثلاثة هوايتي الأثيرة، أحاول أن أعبر خلف هشاشة الوجوه، وأغوص فيما وراءها، أستشّف بعض الأسباب التي قادتها إلى هنا.

خالد البرقاوي الشاب الوسيم، يحمل على ظهره حقيبة تبدو كالحقائب التي يحملها طلبة المدارس، كان الأقرب إليّ، أتبادل معه الحديث ومتابعة هدير الناس.

كان يدرس في جامعة المدينة، وأهله يقيمون وراء هذا الحاجز.

وبين هنا وهناك ينتظر سماع اسمه للسماح له بالعبور إلى ذلك القفر الذي أراه ممتداً أمامي وكأنه بلا نهاية.

صبية يلعبون ويقذفون الحصى بنعالهم، رجال يتوكؤون بتكاسل على طيف أمل أن يظهر الجندي الأشقر بقامته الطويلة، وبين يديه كومة أوراق ليتراكضوا كالنعاج.. يلتفون حوله بسرعة البرق كما يلتف قطيع ظمآن حول قصعة ماء، وكلهم مشدودون وصامتون ينتظرون سماع أسماء يلفظها الجندي بعربية مكسّرة، أسماء تحمل أصحابها إلى غرفة صغيرة يخرجون بعدها معصوبي العيون إلى سيارة مصفّحة تمضي بهم بعيداً إلى حيث لا يعرف أحد، وأسماء يلقون في وجوههم أوراقهم مع عبارة مقيته، "ممنوع". وأربعة أو خمسة أسماء يرشَحون من المعبر، بعد أن ينفضوا حاجياتهم وملابسهم، وينتهي المشهد بانتظار يوم جديد.

وهذا السمين يقف على بعد، يغمز ويبتسم كلما عبر اسم من الأسماء التي قدمت له فريضة السمسرة.

امرأة ترتدي ثوباً مزركشاً جديداً، وتعصب رأسها بمنديل أبيض، تحمل طفلاً وتجرّ آخر وبينهما يمضي الوقت بين بكاء ولعب، ووصلات نوم تحت هجير الشمس المحرقة، وعلى مرمى اليد خلفنا على مسافة الطريق الذي أتى بنا إلى هنا ظلال أشجار وارفة، لكنها بعد أن جمعتنا هذه الساحة باتت بعيدة بعد المجرّات عن زحمة الناس.

ذلك الضخم، يرتدي قميصاً أبيض بياقة عالية وبطنٍ منفوخةٍ يتمشّى بيننا بين وقت ووقت، ويتفرّس في وجوه القوم، يعرف بالفراسة أين يمكن أن يجد فريسة له.

سألني أول أمس إذا كنت هنا لسبب وجيه، فقلت له: لا ليس الأمر كذلك لكنني أرغب في زيارة أقاربي.

والحقيقة أنني لم أكن ألهث للقاء أقاربي الموجودين فعلاً على بعد مئات الأمتار من مكاني هذا، لكنني كنت، ومن باب حب الاستطلاع، أو من باب جنوني، كما كانت تقول زوجتي رحمها الله، أردت أن أحقق انتمائي للوثيقة التي أحملها، وتقول بأنني من هنا.. أصلي من هنا.

لم أعد أدري هل يبدأ من هذا المكان بالذات، أم من حيث جئت، أم بعده.!؟

وإلى أي مدى يمتدّ.!؟

كنت أتلهّف كي أجد جواباً، بعد أن فقدت كل ما يبعث في نفس أي كائن رغبة في مواصلة العيش، وها أنا ذا هنا، أقف تماماً على الحدّ الذي كثيراً ما سمعت عنه، ورأيت أوصافه عبر شاشات الفضائيات،

وأنا في طريقي إلى هنا، غادرت أرضاً طافحة بالخير، مررت على مزارع من نخيل وأعناب وارفة الظلال جميلة ومرتبة ويانعة.

لكنني فجأة، أمام هذا الحاجز "المعبر" سقطتُ في حفرة فراغ مرعبة، كأنني انتقلت إلى عالم آخر لا أجد له وصفاً، صحراء، بادية، دمار.. لا.. لا إنها أكثر من هذا كله، وكلما فتحت ناظريّ رأيت ما هو أقسى من صحراء، ودمار.!

كانت الأرض غير الأرض، والأفق غير الأفق، حتى أشعة الشمس كانت غير شكل، وغير لون، ورغم كل هذه المفارقات ارتضيت أن أنتظر دوري، كما يقولون، كي أرْشَحَ كما تَرْشَحُ قطرةُ ماءٍ من ثوب سميك، وأعبر الحاجز إلى ذلك الأفق المترامي أمامي بلا نهاية.

ـ لو كنت على عجلة من أمرك، سأتدبر لك الأمر..

نظرت إليه باستغراب، فلم أكن حتى هذه اللحظة أدرك أنه يمكن أن يكون سمساراً بشكل ما، وقبل أن أصحو من ذهولي تابع يقول باسترخاء:

ـ خمسمائة شيكل.!

ورفع ياقة قميصه الأبيض باستعلاء، وقبل أن أجيب تابع بحماسة أكثر:

ـ إذا ما في شيكل لا يهم ممكن دينار، أو جنيه، أو دولار، أو يورو.!

وفقع ضحكة صاخبة فبانت بوضوح أسنانه الصفراء المهترئة.

لكنني لم أجب، وعندما أدرك صمتي، تركني، والتصق بذلك الرجل العجوز.

يا اللـه.! من هذا الرجل الصامت.؟

ثلاثة أيام، وأنا أحاول التحدث معه دون جدوى، وكلما اقتربت منه، وحسبت أنني وصلت إليه يبعدني بلباقة، فأجد نفسي أبعد عنه من قبل.

ـ يا أخي رجل غريب، يبدو فوق الستين من العمر ولكنه يملك طاقة نشاط غير عادية، وصبراً، وقدرة على التحمّل.

ثلاثة أيام، وهو بالكاد يتحرك من مكانه، يحمل بين يديه لفافة فقيرة، ويرتدي قميصاً سميكاً غامقاً.

في المرة الوحيدة التي تحدثت إليه، وكان يبدو بمزاج جيد، قال لي، وهو يعبث باللفافة ويشير بيده الأخرى إلى الناس:

ـ أراهنك بأن كلّ واحد من هؤلاء يحمل دماءَ واحدٍ من أهله.!

ـ يحمل دماء.!؟

قلت مدهوشاً بينما تابع، وكأنّه لم يسمعني:

ـ أعرف واحداً يحمل دمَ أخيه منذ ثلاثين سنة.

أحسست، وكأنه يبتسم، فقد ضاقت المسافة بين حاجبيه حتى كادا يلتصقان ببعضهما، وبدت شفته العليا أكثر وضوحاً، بعد أن تخلى شارباه عن إخفائها:

ـ منذ ثلاثين سنة جمع بيديه شقف أخيه عن أغصان الأشجار، وأسكنها كيساً، ثم دفن الأشلاء في حفرة سرعان ما صارت مجهولة.

لم أنتبه متى وضع اللفافة على الحجر، وفرد يديه. لكنه بعد فترة صمت قصيرة أردف قائلاً:

ـ الدماء يا بنيّ.. حملٌ ثقيل.

وتابع هامساً بصوت خفيض:

ـ ذلك عندما نعجز عن سداد الثمن.!

يومها رأيته يدسّ في يد تلك المرأة المهدودة تعباً ورقة نقدية، أسرَعت بها إلى السمسار الذي قلّبها بسخرية، لكنه دسّها في جيب قميصه الأبيض.

كما في كلّ يوم، خرج الجندي الأشقر، فتجمّعنا حوله.

رفع الأوراق التي يحملها عالياً، وهو ينظر إلى كلّ واحد منّا باستخفاف. وبعد أن أنهكنا قلق الانتظار، جاءنا صوته:

ـ فاطمة البوريني..

حملت صرّتها وهرولت تتخطى الحاجز، وما أن أفلتت من زحمة الانتظار حتى أرسلت نظرة معبأة بالعرفان التقطها الرجل الستيني بابتسامة راضية.

ـ خالد البرقاوي..

أنتفض الشاب طرباً، لكنه قبل أن يعبر الحاجز، اقتيد إلى الغرفة الصغيرة.

ـ عمران العكاوي..

وقذف إليه أوراقاً، وهو يعلك بين شفتيه كلمة، "ممنوع" .!

تابعت الورق الطائر لأجده يستقرّ بين يديّ الرجل الستيني، لحظتها فقط عرفت اسمه.

الصوت يعاود الصراخ:

ـ أحمد المصري، أحمد المصـ، أحمد الـ،،

كنت كلما ابتعدت عائداً، يصلني الصوت خافتاً أكثر..

لكنني واصلت المسير دون أن أجرؤ على الالتفات.

لم أسأل نفسي أبداً: إلى أين كان سيوصلني النداء.!؟

بقلم:عدنان كنفاني