لم نخبُر التآلُف بين سوء الخُلق والتفوق بالدراسة , لكن تلميذنا " سامي " جمع بين الإثنين ." أبو سامي " لم يعد يتحمّل ترحيل ولده كل عام من مدرسة إلى أخرى لسوء خُلُقه , والتعامل بعدوانية مع زملائه . جلس إلى أصدقائه في أحد المقاهي يشكو حال ابنه , رغم تفوقه على أقرانه بتحصيل الدرجات العالية , إلا أنّه لا يُحسن التصرف مع معلميه . تقدّم إليه رجلٌ فارع الطول وسمين , تعلو وجهه هيبة القائد , ووقار المُربي , لقد كان يُنصت إلى شكوى هذا الأب المنكوب بابنه , مدّ يده ليصافحه وقال : ألا تذكرني يا أبا سامي ؟ فراح ينظر إلى وجهه بتمعّن , ثم علت وجهه ابتسامة عريضة , واحمرّت وجنتاهُ وبرزت العروق في جبينه صارخا : وِليم ؟ أنت وِليم ابن السيدة روز ؟ قال : نعم , واستمعت إلى مشكلتك , وليس عندي مانع من مُساعدتك , فأنا مدير مدرسة " المطران بُطرس " الثانوية .

لم يمضِ أسبوعٌ من بداية السنة الدراسية , حتى قامت مُشاجرة في ساحة مدرسة ( المطران بطرس ) بطلاها : " سامي " و " أحمد " , وهما زميلين في الصف العاشر ( الأول ثانوي ) , تجمّع الطلاب حول المتخاصمين , حتى جاء المُربي المناوب ليقودهما إلى غرفة السكرتير , ليبدأ التحقيق معهما حول المشكلة . فتصدّر " أحمد " الشكوى , رافعا مظلمته , ليدعي أن سامي سرق نقوده , طالبا من زملاءه ليشهدوا على عملية السرقة بالإكراه , فشهد الطلاب معه . لكن " سامي " دافع عن نفسه قائلا : نعم صحيح , لقد رآني الزملاء وأنا أختطف النقود من يدَيْ " أحمد " لكنهم لم يشهدوا سرقة " أحمد " لهذه النقود مني أولا . لم يستطع نائب المدير حلّ المسألة , فاستدعى المدير ليُحقق بنفسه فيها . حاول المدير أن يُقنع " أحمد " بالتنازل عن نصف المبلغ , فرفض بشدّة , وتوعّد " سامي " باسترداد المبلغ كاملا , وبالقوّة . المُدير لم يشأ أن تتوسع دائرة الخلاف لتصل إلى أهل الولدين , فوعد " أحمد " أن يُساعده على استرداد حقه بعد استكمال التحقيق , وظهور الحقيقة كاملة .

مضى أسبوعٌ من التوتر بين المتخاصمين دون ايجاد حلٍ للمشكلة , فاستدعى المُدير بعض الطلاب المقربين لــِ " أحمد " على أمل أن يُقنعوه بالتنازُل , فرفض مُجدّدا . ليعود المُدير ويعرض مُكافأة على أصدقائه المُقربين , وذلك بتمييزهم في التعامل , والتجاوز عن بعض المخالفات المُسجّلة عليهم لو أقنعوه . هُنا , استخدم أصدقاء " أحمد " لهجة أخرى مع صديقهم , وهددوه بعدم التعاون معه أو مصاحبته إن لم يتنازل عن نصف حقه في النقود المسروقة , فوافق . وبالعودة إلى " سامي " ليبشره المدير بتنازُل " أحمد " عن نصف المبلغ , قبل " سامي " بالتنازل عن ثُلثه فقط , ولكن بشرط , أن يقف " أحمد " أمام كل الطلاب من الفصول المختلفة في ساحة المدرسة , ويعتذر عن تجريحه لــ " سامي " واتهامه زورا وبُهتانا بالسرقة .

في اليوم التالي , وقف كل من " أحمد " و " سامي " أمام الطابور بمواجهة الطلاب , وبدا " أحمد " مغلوبا على أمره وهو يُعلن أسفه لــ " سامي " مُعترفا له بحقه في ثُلثي المبلغ . عندها ظهرت ملامح الانتصار على وجه " سامي " فنظر نظرة ازدراء إلى زميله , ثُم أشاح بوجهه عنه , وقلّب عينيه المعاتبتين في عُيون الهيئة التدريسية وعلى رأسهم المدير ونائبه , ليتوجه إلى الطلاب بخطابه الثابت قائلا : طوال أسبوع وزميلنا " أحمد " يتهمني بسرقة هذا المال منه , وأنا ساكت أدعو الله أن يُبيّن الحقيقة , وها هو أخونا " أحمد " يعترف أمامكم جميعا بحقي بثلثي المبلغ , ولا يتهمني بالسرقة , بل ويعتذر لي . فهل تُصدّقون هذا الكاذب بأنّ من حقه ثُلث المبلغ ؟ أجيبوني .

القصة لم تنته إلى هُنا , فبعد أن اعترفنا بحق اليهود في أكثر من ثمانين بالمائة من أرض فلسطين أمام العالم أجمع , هل يحق لنا بالمطالبة بما تبقى منها وهي كلها بحوزتهم ؟
بقلم:خالد الطيبي