الحمد لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا  إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أما بعد:
فقد جاء زلزال 25 يناير ليضع كثيراً من الأفكار في مهب الريح ، وليجبر غالبية الناس  على إعادة النظر في  الكثير من المفاهيم ، وعلى مراجعة كثير من المواقف التي لم تكن قابلة للنقد ، ولا للمراجعة ، فضلاً عن قابليتها للتغيير ، زلزال 25 يناير من هوله وضخامته يكاد يكون لم يترك حجراً على حجر في بلادنا .
ومن المؤكد أن – كغيرها من الجماعات – وجدت نفسها – فجأة  بل فجأة جداً – أمام ، في وقت لم تكن فيه الدعوة مستعدة لتغيير أقل من ذلك بكثير ( لا أجد حرجاً – وأنا السلفي –  أن أقول أنه ومن وجهة نظري فإن الجماعة الوحيدة – لا أقول في مصر بل في العالم – التي كانت مستعدة لهذه المفاجأة هي جماعة الإخوان المسلمين ، وهذه الجاهزية الكاملة واليقظة المعجزة كانت – بعد توفيق الله – هي سر نجاح هذه الثورة المباركة)
يرى كثير من المراقبين – سواء من معسكر الخصوم أو حتى معسكر الأتباع والمؤيدين – أن الأداء السلفي كان كارثياً في تواضعه وتخبطه ومستواه ، وأن الدعوة السلفية ربما تكون فقدت كثير من رصيدها في الشارع ، وفقدت كثيراً من الأتباع المتوقعين ، بعد أن تركوا الملايين في بحر الحيرة والتخبط ، وهم بين صامت وخابط ومائع إلا من رحم الله حتى كاد الشباب أن يفتن في دينه ، وكادت السلفية أن تكون منقصة .
وحيث إنني واحد من هؤلاء الأتباع ، وأدعي وأزعم أنني سلفي حتى النخاع ، فأنا الذي كتبت (الحويني الذي أعرفه) وأنا الذي كتبت (الرد الدامي في الدفاع عن الشيخ ياسر برهامي) وأنا الذي كتبت (أنا وهابي فكان ماذا؟) وأنا الذي كتبت (السلفية والأمر الأول)  وكتبت (التغيير الذي يريده السلفيون) وأنا الذي أؤمن إيماناً جازماً أن السلفية هي الحل ، أسوق هذه المقدمة ، وأُذكر  بهذه العناوين حتى أقطع الطريق على من سيكتب أنني علماني أو إخواني أو زلبانى ، ولأثبت أنني لا أكتب بقلم المبغض ، بل بقلم المحب .
أقول أنا ككثير من السلفيين ، ومن الناس العاديين ، الذين أصابهم زلزال 25 يناير في مقتل ، وبعثر أوراقهم ، وأحرجهم حرجاً بالغاً ، وألقاهم في بحر من التساؤلات ، وجعلهم على وشك بدء مراجعات شاملة ، كما أقول: إنني لا أكتب اليوم ما أكتب إلا بعد أن حملت حيرتي وذهبت بها إلى شيخ هو وإن كان غير مشهور لكنني أدين لله أنه من أفقه من رأيت بعيني ، ولم أكتف بذلك بل حملت حيرتي ، وذهبت بها أول أمس إلى جلسة اجتمع فيها ثلاثة من أقطاب سلفية القاهرة ، وهم من القلائل الذين قالوا الحق في عز بطش النظام ، وتحملوا لأجل ذلك ما لا يعلمه إلا الله ، وهم أيضاً ممن شارك في الثورة فحفظ لنا بعض ماء الوجه .
تذمر في المجتمع السلفي
وقد خرجت من هذه الجلسات بأنني لست وحدي ، بل إن هناك حالة تذمر واسعة في المجتمع السلفي وأنه قد آن أوان الجهر بما بين الحنايا ، وآن أوان المصارحة ، وآن أوان ثورة 25 يناير سلفية ، لا تسعى لإسقاط النظام ، بل إلى مساعدته على التقويم والتصحيح ، وصولاً إلى حقيقة المنهج السلفي ، الذي هو أعظم منهج في الدنيا ، وهو أصلح بل هو المنهج الوحيد الصالح لإصلاح العالم ، وصولاً لسعادة الدارين ، لكن الخلل وقع حين قام البشر بتنزيل هذا المنهج الرباني على واقعنا المعاصر شديد التعقيد،الذي يتغير بسرعة خارقة وهو ما يستلزم آليات بالغة الدقة والحساسية لمسايرة هذا الواقع .
من أجل هذا كانت هذه السلسلة حول نقد الخطاب السلفي نقداً سلفياً ، وأعتذر عن صراحتي التي ربما ستكون تامة ، وأحياناً مؤلمة ، لكن والله ثم والله ثم والله هي قسوة المحب ، مع العلم أنني أحمل هذه التساؤلات بداخلي منذ زمن بعيد ، لكني قاومتها رغبة في وحدة الصف ، لكن جسامة الحدث ، وبشاعة الأداء ، لم يدعا للكتمان مسلكاً .
هذا وأكرر أن ما أكتبه قد وافقني بل وشجعني عليه من يُجمع أبناء جناحنا السلفي على أنه أفقه أهل هذه البلاد ، وشجعني عليه من وضعته بيني وبين ربى وأنا أرجو بذلك النجاة .
كذلك أود أن أقول إنه ربما قال قائل: ولماذا الفضيحة؟ ولمَ لم تكن نصيحة تسر بها إلى هؤلاء الأفاضل؟
فأقول: أولاً وللأسف – وهذا من جملة المآخذ –  بعضهم لا يمكن الوصول إليه ، وبعضهم إن وصلت إليه لا يرد وإن رد لا يتفاعل ، هذه واحدة ، والثانية أن الأخطاء وقعت على الملأ ، وأن القضية صارت قضية رأي عام سلفي ، وأن الأمر صار يحتاج إلى مساهمة المجتمع السلفي كله في تحديد سائر الأمراض والمشاركة في وضع وتنفيذ خطة العلاج .
بعض  الملاحظات على الأداء والخطاب السلفي في الجملة ( مع ملاحظة أن بعض كلامي لو لم يكن صحيحاً فإنه يمثل وجهة نظر الملايين وهو ما نتج عن صمت البعض وتخبط البعض الآخر) :
    
طفولة سياسية    
1- كان موقف كثير من رموز الدعوة السلفية – خصوصاً من يحتلون صدارة المشهد الإعلامي الإسلامي – كان موقفهم يتراوح ما بين فريق الشاشات الذي يخاطب العوام ، فهذا الفريق ساهم – ولو عن غير قصد وبحسن نية وطفولة سياسية لأن معظم رموز هذا الفريق  من الوعاظ – ساهم في تغييب الجماهير عن قضايا مصيرية لا تقل في حكمها الشرعي لا تقل أهمية عن كثير من قضايا العبادات ، وما بين التمييع الذي مارسه بعض من الفريق المحجوب عن الإعلام  والشاشات ، كان موقف هذين الفريقين ولأسباب تختلف من واحد إلى آخر ، منها قلة حظ البعض  من العلم الشرعي المتين والراسخ ، ومنها عدم الفهم الواعي  لمقاصد الشريعة ، أو حقيقة التكييف الفقهي لكثير من الأمور التي تعد من النوازل ، وتحقيق المناط ، وحجم المصالح والمفاسد والأكيد أن الأحداث أثبتت الطفولة السياسية لكثير من الرموز السلفية وانعدام آليات تطوير الخطاب ، وإهمال العلوم غير الشرعية ، وضعف الثقافة العامة ، وهو ما ساهم في أن يكون التفاعل مع الأحداث بطيء جداً وبالتالي كان الخطاب ، ورد الفعل بطيء وناقص ومحبط ، ومن المفارقات العجيبة أنها نفس خطايا الرئيس المخلوع ، فقد أخطأ في تقدير حجم الحدث ، وأخطأ في قراءة حقيقة المشهد ، فكانت خطاباته دائماً متأخرة وناقصة ومحبطة .
كان الخطاب السلفي متواضعاً جداً في معظمه ،  ولا يتناسب قط – لا مع عظمة وقوة المنهج السلفي ، ولا مع مستوى الأحداث ، ولا مع تطلعات الجماهير ، ولا مع متطلبات المرحلة ، والأسوأ أنه لم يكن متناسباً مع قوة وجزالة ورقي خطاب العلمانيين والمنافقين وطلاب الدنيا ،
 أما حين تقارن بأداء الإخوان المسلمين فإنك تموت من الخجل والمرارة ، ولا تملك إلا أن تقف مشدوهاً أمام أداء معجز يكاد يشبه في دقته وترتيبه وكماله أداء الجيش المصري في إنجاز العبور وتحقيق نصر أكتوبر.
أداء الإخوان المسلمين فاق الخيال ، وسبب هذا من وجهة نظري  أن  الإخوان المسلمين ومنذ زمن بعيد يعرفون ماذا يريدون ، ونظراً لوضوح الهدف فقد استعدوا جيدا لهذه اللحظة فلما جاءت لم يكن هناك أي تردد أو شك ، كانت الخطة جاهزة والكوادر موجودة والطريق واضحاً والغاية معروفة وهو ما يفسر رفضهم التام لكل تنازلات النظام بينما كان كثير من الناس يرون هذه التنازلات كافية ويطالبون الثوار بالرضا والقنوع والرجوع.
جاءت اللحظة للجماعة الجاهزة ، فانقضوا على خيوط النهار قبل أن تفلت من بين أيديهم ، وأنقذوا ثورة الشباب.
كان خطاب وأداء الإخوان مشرفاً واحترافياً بامتياز وشتان بينه وبين خطاب الهواة ، ثم ومع التواضع البالغ للخطاب السلفي والذي سبب حرجاً بالغاً للسلفيين ، فقد كان شديد التأخر ، والتخبط ، والميوعة ، والارتجال ، وكان خطاباً اجترارياً بامتياز ، يعيد ترديد أدبياته ذاتها ، دون أن يقف لحظة مع نفسه ليدرك أنه أمام طوفان أو زلزال وأن كل شيء يتغير ويحتاج الأمر إلى خطاب مختلف ومميز وواضح ، وليس خطاباً ألعوبانياً يحاول أن يمسك العصا من المنتصف ، فيخسر كل شيء .
2- أثبتت الأحداث أن السلفيين لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين وأنهم شربوا المر ورضوا بالذل والهوان من نظام بالغ الضعف والوهن وأنهم فقط لو كانوا دخلوا عليه الباب لكانوا هم الغالبين
 
3- أثبتت الأحداث أيضاً أن كثيراً من الأحكام الفقهية التي تتعلق بالخروج على الحاكم ، وحكم المظاهرات والاعتصامات ، تبنى فيه كثير من الدعاة السلفيين أقوالاً وجعلوها محل إجماع ، مع أن هذا خلاف الحقيقة ، وأن شروط الحاكم الذي لا يخرج عليه ، والشكل الممنوع من الخروج كانا يمكن أن يكونا سبباً في تبني عشاق الحور ، وطالبوا الجنان وأحفاد خالد وصلاح أقوالاً أخرى ، أو على الأقل جعل الباب موارباً ، خصوصاً مع حجم الفساد ، والظلم ، والبطش ، والفسق ، والزندقة ، ومحاربة دين الله الذي وصلت إليه البلاد على يد هؤلاء الحكام مما يجعل تبنى القول الآخر – أو على الأقل عدم تسفيهه أو التشنيع عليه – هو الأقرب لروح الشريعة وهو الأقرب لمصالح العباد ، ومقاصد الشريعة  ، ومع جمع آثار أخرى في باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر (راجع كلام ابن حزم في كتاب الفصل ، باب الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر) ومع وجود أبواب الصدع بالحق عند سلطان جائر ، ومع وجود أبواب نصرة المظلوم ، ودفع الظلم ، والحكم بغير ما أنزل الله ، ومع أن العقد الذي ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وهو الدستور لا يعد المظاهرات خروجاً على الحاكم ، والحاكم نفسه لا يقول لمن تظاهر أنه قد خرج عليه ، كل هذا كان كفيلاً بفتح الباب أمام  شرعنة موقف رافض ومشرف يحفظ للدعوة السلفية مكاناً في صدارة المشهد يمكنها من تحقيق مكتسبات للتمكين لشرع الله .  
    
غياب الرؤية والقدرة على التنسيق   
4- أثبتت الأحداث غياب الرؤية الموحدة ، والقدرة على التنسيق ، ومعرفة أدوات وأساليب التعاطي والتخاطب مع المجتمع ، ووسائل الإعلام ، والغياب التام والمخزي للتنسيق للخروج بورقة عمل مشتركة لا تخالف الشرع لكنها مكتوبة بمفردات عصرية جداً ، فلا موقف واحد ، ولا متحدث واحد ، ولا هيئة واحدة ، ولا بيان مشترك !!!
5- أثبتت الأحداث عدم وجود أي مشروع سلفي جاد يمكن تقديمه للمجتمع ، بحيث يصلح أن يكون المشروع السلفي الكامل لنهضة الأمة وليس كلاماً عمومياً أو عاطفياً يصلح أن تخاطب به الناس في خطبة جمعة أو درس عام ، كما وأثبتت الأحداث الافتقار شبه الكامل للكوادر التي تربت على تعظيم الشريعة ونالت حظها من العلم الشرعي وفى نفس الوقت عندها ثقافة عامة وخطاب عصري وخطة محددة ، وانتشرت في كافة قطاعات المجتمع لتكون رهن الإشارة ، ولو قالوا لنا الآن نريد منكم رجلاً في لجنة صياغة الدستور يشترط فيه أن يكون فقيهاً حتى النخاع ، وقانونياً من رأسه لأخمص قدميه ، فهل عندنا ؟
 وهل عندنا في وسائل الإعلام العادية من يتبنى وجهة نظرنا بل حتى يفهم حقيقة دعوتنا؟ بل هل يعرف عوام الناس مميزات الحكم الإسلامي؟ وحقيقة المنهج السلفي؟ وهل عرض واحد من رموز الدعوة السلفية شكل الدولة التي نرغب فيها بشكل يراعى طبيعة المرحلة ومخاوف الآخرين ومنطقية التغيير وفقه التوازنات والتنازلات ؟
  6- أسوأ ما أثبتته الأحداث هو أننا حجرنا واسعاً ، وقاتلنا على قضايا كان هناك ما هو أهم منها وأولى ، وكان الخلاف فيها جائزاً ومعتبراً ، وأننا من أضيق الناس صدوراً بالمخالف ، بل ومن أجهل الناس معرفة بطبيعة من يخالفنا ، وحقيقة ما نختلف معه فيه ، وأننا من أسوأ الناس ظناً بمخالفيناً ، واحتقاراً لهم ، وأجرئهم على الوقوع في مخالفيهم ، وأنجحهم في صناعة الخصوم .
7- السؤال الآن : من أين أُتينا؟ ما هي الثغرة؟ وما هو الخلل الذي قاد  إلى هذه الأخطاء الكارثية بالرغم من أننا نملك المنهج الذي جعل رعاة الغنم يملكون الدنيا في عشر سنوات ، المنهج الذى صنع أبا بكر وعمر وعثمان وعلى وبلال وخباب؟
 كيف يمكن تعويض ما فات ، والبدء في الاندماج في المجتمع؟ كيف يمكن وضع آليات تجعلنا نعيش الواقع دون أن نتخلى عمّا يطلبه الشرع ؟ كيف يمكن أن ننتج جيلاً دينه شحمه ولحمه لكنه يفهم زمانه ويحسن قراءة واقعه ويملك من العلم الشرعي والوعي الدنيوي ما يجعله نموذجاً لما يحتاجه الناس اليوم؟ كيف يمكن أن نكون في قمة الجاهزية حتى إذا جاءت الفرصة أمسكنا بها ولم نفوتها ؟
8- بقى أن أقول إن هناك من الرموز السلفية وشباب السلفيين من ساندوا المطالب وجهروا بالمعارضة وساهموا فى التغيير .
9- أهم ما أريد أن أسجله أن الغضب العارم ليس من تبنى موقف مخالف للثورة ، بل هذا الرأي يظل رأياً محترماً ومعتبراً خاصة وأن حجم المفاسد كان يمكن أن يكون كارثياً ويقلب فرحتنا إلى مأتم ، ويثبت أن من منع الخروج كان محقاً ، أقول ليس هذا هو سبب الغضب ، إنما الغضب جاء من جعل هذا الرأي هو الحق الوحيد ، وجاء من بشاعة الأداء وهزليته ، فلو أن خطاباً محترماً وحاسماً ومدججاً بأدلة الشرع مع ذكر أدلة المخالف بإنصاف وجعلها معتبرة أقول لو خرج هذا الخطاب لهان الخطب ولو توحدت الرموز وانضوت تحت لواء واحد وأظهرت تفاهماً كالذي يظهره العلمانيون والليبراليون ولو وجدت آليات التواصل مع الشباب ومع المجتمع ومع سائر أطياف التيار الإسلامي للتنسيق ، مع ديناميكية الأداء لكانت الصورة مختلفة جداً ، دعوة بهذا الحجم ليس لها كبير ، فوا أسفاه
بقلم:خالد الشافعي